مبدأ المشروعية
السلام عليكم
المبحث الأول
تعريف مبدأ المشروعية نطاقه شروطه ومصادره
إن الحديث عن القضاء الإداري ودوره في حماية مبدا مشروعية الأعمال الإدارية يفرض أولا التطرق لهذا المبدأ وإبراز أهميته القانونية. لذا فضلنا التطرق أولا لمبدأ المشروعية اعتبارا أن كل المنازعات الإدارية تدور حوله. وأن دور القاضي الإداري هو الحافظ الأمين على هذا المبدأ وهو من يتصدى لكل محاولة إدارية من شانها المساس بهذا المبدأ أو النيل منه.
وقسمنا هذا المبحث إلى أربعة مطالب:
المطلب الأول
تعريف مبدأ المشروعية
إن السمة البارزة للدولة الحديثة أنها دولة قانونية تسعى إلى فرض حكم القانون على جميع الأفراد في سلوكهم ونشاطهم، وكذلك فرضه على كل هيئات الدولة المركزية و المحلية وسائر المرافق العامة. ومن هنا تبرز العلاقة بين مفهوم الدولة القانونية و مبدأ المشروعية ، ذلك أن إلزام الحكام و المحكومين بالخضوع لقواعد القانون، و تحكم هذا الأخير في تنظيم و ضبط سائر التصرفات و النشاطات، لهو مظهر يؤكد قانونية الدولة أو وجود ما يسمى بدولة القانون .
ويقصد بمبدأ المشروعية الخضوع التام للقانون سواء من جانب الأفراد أو من جانب الدولة. و هو ما يعبر عنه بخضوع الحاكمين و المحكومين للقانون و سيادة هذا الأخير و علو أحكامه و قواعده فوق كل إرادة سواء إرادة الحاكم أو المحكوم.
إذ لا يكفي أن يخضع الأفراد و حدهم للقانون في علاقاتهم الخاصة، بل من الضروري أن تخضع له أيضا الهيئات الحاكمة في الدولة على نحو تكون تصرفات هذه الهيئات و أعمالها و علاقاتها المختلفة متفقة مع أحكام القانون و ضمن إطاره.
وإذا كانت دراسات تاريخ القانون قد أثبتت أن الأفراد منذ قيام الدولة، و من قديم الزمان يخضعون للقانون على الوضع الغالب، بحكم تبعيتهم لسلطة تملك أمرهم، و توقع عليهم الجزاء عند المخالفة ، غير أن خضوع الهيئة الحاكمة للقانون لم يكن أمرا مسلما به في العصور القديمة، و التي أعفت الدولة نفسها من الخضوع للقانون محاولة فرضه بالنسبة للأفراد .
ويعد مبدأ المشروعية أحد أهم مبادئ القانون على الإطلاق، لما له من أثر على صعيد علم القانون ككل بمختلف فروعه و أقسامه العامة و الخاصة . وكلما ظهر مبدأ المشروعية و بدت آثاره و معالمه و نتائجه كلما اختفت مظاهر الدولة البوليسية.
ذلك أن مبدأ المشروعية يمثل الضابط العام للدولة في علاقاتها المختلفة مع الأفراد. فلا يجوز لها طبقا لهذا المبدأ أن تأتي سلوكا مخالفا للقانون بإصدار قرار غير مشروع.وإن بادرت إلى فعله تعين على القضاء بعد رفع الأمر إليه التصريح بإلغاء هذا القرار محافظة على دولة القانون.
و يمثل مبدأ المشروعية من جهة أخرى صمام آمان بالنسبة للحقوق و حريات الأفراد. و هو الحصن الذي يكفل صيانتها و حمايتها من كل اعتداء . فلو أخذنا على سبيل المثال حق الملكية و هو حق من حقوق الإنسان كفله الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في المادة17 منه. و ثبته العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية و السياسية. و هو حق ثابت أيضا في دساتير الدول على اختلاف نظامها السياسي، و مكرس في القوانين المدنية ، فإن الاعتداء على هذا الحق بمباشرة إجراء نزع الملكية للمنفعة العامة من قبل أحد الجهات الإدارية المخولة و دون مراعاة جوانب إجرائية ، فإن قرار النزع على النحو صدر مخالفا لما قرره القانون، بما يصح معه نعته بالقرار الغير مشروع . ومآل القرار الغير مشروع هو البطلان و الإلغاء إما من جانب سلطة إدارية أو سلطة قضائية.
ومن هنا تبين لنا أنه لولا مبدأ المشروعية لضاع حق الملكية، بل و كل حق أي كانت طبيعته.لذلك ذهب الفقه في فرنسا إلى إبراز دور القاضي الإداري في الربط بين القرار المطعون فيه، وبين القواعد القانونية باعتباره الحارس الأمين لقواعد القانون من أن تنتهك نتيجة عمل من أعمال الإدارة.
و لا يكفل مبدأ المشروعية حماية حقوق الأفراد فقط ، بل يحمي أيضا و يصون حرياتهم. ذلك أن السلطة الإدارية إن كان معترف لها في كل الأنظمة القانونية باتخاذ إجراءات الضبط للمحافظة على النظام العام ، فإن ممارسة هذه السلطة مقيد بمراعاة مبدأ المشروعية . فلا يجوز للسلطة الإدارية اتخاذ إجراءات الضبط خارج إطار و دواعي النظام العام. فإن ثبت ذلك تعين النطق بإلغاء القرار الإداري، إما من جانب القضاء بعد رفع الأمر إليه، أو من جانب السلطة الإدارية ( الولائية أو الرئاسية) .
وتأسيسا على ما تقدم فإن دولة القانون تبدأ بتكريس مبدأ المشروعية في أرض الواقع على نحو يلزم كل هيئات الدولة بمراعاة حكم القانون في نشاطاتها و تصرفاتها و في علاقاتها المختلفة . إذ ما الفائدة أن ينظم القانون علاقات و روابط الأفراد و تتحرر هيئات الدولة من الخضوع إليه. إن مثل هذا الأمر إذا كرس في أرض الواقع لنجم عنه العودة بالمجتمع البشري إلى مراحله الأولى و التي سادت فيها الدولة البوليسية. من أجل ذلك ذهبت الدراسات الدستورية إلى تقسيم الدول من حيث خضوعها لمبدأ المشروعية إلى حكومات و دول استبدادية و أخرى قانونية.
ولم يخفي مجلس الدولة الفرنسي في العديد من قراراته وجود علاقة متينة بين دعوى الإلغاء وبين مبدأ المشروعية. فهذه الدعوى بالتحديد هي تمكن القاضي الإداري من أن يمارس دوره في المحافظة على مبدأ المشروعية وسلامة الأعمال الإدارية وملائمتها لقوانين الدولة. من ذلك قراره بتاريخ 17 فبراير 1950 القضية رقم 86949.
وتكريسا لمبدأ المشروعية في أرض الواقع أقر المشرع المصري مبدأ خضوع الإدارة للقانون في مختلف قوانين مجلس الدولة كان آخرها القانون رقم 47 لسنة 1972. حيث قضت المادة العاشرة منه بأن يختص القضاء بإلغاء القرارات الإدارية المخالفة لمبدأ المشروعية وكذالك التعويض عن الأضرار الناجمة عنها. وعلى ضوء ذلك أكد القضاء المصري بسط رقابته على أعمال الإدارة حتى في حالات الضرورة.إذ ذهبت المحكمة الإدارية في حكم لها بجلسة 27/3/2004 الطعن 7943/46 ق أوضحت من خلاله أن وصف الخطر الذي يبيح استخدام السلطات المنصوص عليها في المادة 74 من الدستور لم يكن محقا وقت صدور القرار المطعون فيه بإلغاء ترخيص إحدى المجلات والتحفظ على أموالها ومقرها وبالتالي ما كان يسوغ اتخاذ الإجراء الوارد بها.
وليس المشرع المصري فقط هو من أقر خضوع الإدارة في أعمالها لرقابة القضاء،بل المشرع الجزائري، والتونسي، والمغربي، وسائر التشريعات العربية الأخرى.كما تبنت مبدأ خضوع الإدارة للقانون مختلف الأنظمة القانونية على اختلاف طبيعة نظامها القضائي.
المطلب الثاني
نطاق مبدأ المشروعية و مجاله
أولا: من حيث تدرج القواعد
لا يقصد بمبدأ المشروعية خضوع الدولة للقانون بمعناه الضيق كمجموعة نصوص رسمية صادرة عن السلطة التشريعية ، وإنما المقصود به خضوعها للقانون بالمفهوم العام و الشامل و الواسع الذي يضم مختلف القواعد القانونية في الدولة، بدءا بالقواعد الدستورية و القواعد الواردة في المعاهدات و الاتفاقيات الدولية و قواعد القانون العادي بل و نصوص التنظيم أو ما يطلق عليه باللوائح.
و يمتد سريان مبدأ المشروعية ليشمل كل مصادر المشروعية من قواعد مكتوبة و غير مكتوبة . فيشمل التشريع لما يحتويه من قواعد متدرجة من حيث القوة و الإلزام من قواعد الدستور و المعاهدات و التشريع العادي و اللوائح.
وتأكيدا لذلك ذهبت محكمة القضاء الإداري في مصر إلى القول أن ما انعقد عليه الإجماع من أن الدولة إن كان لها دستور مكتوب وجب عليها التزامه في تشريعها وفي قضائها وفيما تمارسه من سلطات إدارية، وتعين اعتبار الدستور فيما يشمل عليه من نصوص وفيما ينطوي عليه من مبادىء هو القانون الأعلى الذي يسمو على جميع القوانين والدولة في ذلك إنما تلتزم أصلا من أصول الحكم الديمقراطي هو الخضوع لمبدأ سيادة التشريع. وهذا ما قضت به محكمة القضاء الإداري في مصر في حكم تاريخي صادر عنها في 21 يونيه 1952 الطعن رقم 109. . وذات الأمر أكدته محكمة العدل العليا في الأردن في قرارها رقم 63/66 وقرارها 107/64 .
ولم تحد المحكمة الإدارية في تونس عن المبادىء السابقة في أحكام وقرارات كثيرة منها القرار الصادر بتاريخ 2 ديسمبر 1980 القضية عدد 365 تس. والقرار التعقيبي بتاريخ 14 جويلية 1983 القضية عدد 212. والقرار التعقيبي بتاريخ 26 مايو 1983 القضية عدد 191 .
كما يشمل مبدأ المشروعية المصادر الأخرى لمبدأ المشروعية كالعرف والمبادىء العامة للقانون . وهذا ما يمكن التعبير عنه بنطاق مبدأ المشروعية من حيث تدرج النصوص القانونية .
ثانيا : من حيث سلطات الدولة
أما عن سريان المبدأ من حيث سلطات و هيئات الدولة فمبدأ المشروعية ملزم لكل الهيئات و هياكل الدولة بصرف النظر عن موقعها أو مركزها أو نشاطها و حتى طبيعة قراراتها .
فالمبدأ ملزم :
أ- للسلطة التشريعية :
إن السلطة التشريعية في كل الدول منوط بها اقتراح القوانين ومناقشتها و المصادقة عليها بحسب ما تقره القواعد الواردة في الدستور و في قوانين الدولة . فهي إذن محكومة حال قيامها بالعملية التشريعية بمبدأ المشروعية . فإذا حدد لها الدستور مجالا للتشريع فليس لها أن تتجاوزه. وإذا حدد لها نصابا معينا لاقتراح القوانين فوجب الخضوع له. وإذا حدد لها القانون جهة داخلية معينة تمارس سلطة تسيير الهيئة التشريعية وتبين قواعد عملها و العلاقة فيما بينها وبين الحكومة و رسم الجوانب الإجرائية للعملية التشريعية و جب في كل الحالات الخضوع لهذه القواعد سواء كان مصدرها الدستور أو القانون .
ب- للسلطة التنفيذية :
إن السلطة التنفيذية في كل الدول هي السلطة الأكثر امتلاكا للهياكل و الأكثر استخداما للأعوان العموميين . وهي سلطة مكلفة بتنفيذ القوانين و إشباع حاجات الأفراد و المحافظة على النظام العام. و هي الأخرى ملزمة في عملها بمراعاة مبدأ المشروعية.
فإذا كان القانون يجيز لها مثلا نزع الملكية للأفراد لمقاصد عامة ، أو اتخاذ إجراءات الضبط، أو الإشراف على العمليات الانتخابية و تنظيمها أو تقديم الرخص و غيرها، فإنها في كل هذا النوع من الأعمال وجب أن تخضع لمبدأ المشروعية . وأن أي خروج و انتهاك لقاعدة قانونية من جانبها ينجم عنه بطلان التصرف.
ونسجل للقضاء المصري إصداره لقرار تاريخ باعتقادنا لأنه لم يلتزم فيه بتطبيق القانون فقط، بل ذهب باتجاه الدعوة لتصويب النصوص الدستورية. ويتعلق الأمر بالقرار الصادر عن المحكمة الإدارية العليا في جلسة 6/9/2005 والتي أرست من خلاله مبدأ عاما أن القاضي الإداري هو الحارس الأمين على مبدأ المشروعية. وقالت المحكمة في ذات القرار" إن مبدأ المشروعية لا يتفق وتحصين قرارات لجنة الانتخابات المشرفة على انتخاب رئيس الجمهورية من رقابة القضاء باعتبارها قرارات إدارية مما يختص القضاء الإداري بفحص مشروعيته، إلا أن القاضي الإداري التزاما منه بمبدأ المشروعية أعلن التزامه بتطبيق النص الدستوري الذي حصن قرارات تلك اللجنة." و ذهبت المحكمة للدعوة لتصويب النص الدستوري وتعديله بما يجعل للقضاء الإداري ولاية كاملة تشمل كل القرارات الإدارية تطبيقا لمبدأ المشروعية وحفاظا على حقوق الأفراد بقولها " والمحكمة إذ تقضي بذلك ، فإنها تهيب بالمشرع الدستوري أن يعيد النظر جديا في نص المادة 76 من الدستور في ضوء ما تقدم بحيث يرجع النص إلى الأصل العام والمبادىء المستقرة في شأن عدم تحصين أي قرار من رقابة القضاء الإداري"
ونسجل للمحكمة الإدارية بمصر العديد من القرارات المهمة من ذلك قرارها بتاريخ 25/02/2005 الطعن 7711/47 ق حيث انطلقت المحكمة من نص المادة 41 من الدستور التي لا تجيز منع الأفراد من التنقل والسفر إلا بأمر من القاضي المختص أو من النيابة العامة وذلك وفقا لأحكام القانون.ونظرا لوجود فراغ تشريعي ناجم عن الحكم بعدم دستورية القانون الذي كان ينص على سلطة وزارة الداخلية في المنع من السفر،فإن ما تصدره النيابة العامة من قرارات منع السفر دون وجود قانون ينظم هذه السلطة يجعل ما تصدره النيابة مجرد إجراء فاقد لسنده الدستوري والقانوني .
ومارس القضاء الإداري في مصر كما في دول أخرى دور حماية الحقوق الفردية منها حق الملكية باعتباره حقا دستوريا وحقا مدنيا. ففي قرار للمحكمة الإدارية بمصر بتاريخ 18/01/1998 الطعن 288 لستة 33 ق ذهبت المحكمة إلى القول " ومن حيث أن قضاء هذه المحكمة جرى على أنه وفقا لأحكام الدستور والقانون فإنه بالنسبة لنزع ملكية العقارات اللازمة للمنفعة العامة، يتعين مراعاة قاعدة أساسية أساسها الموازنة بين مصلحة الدولة وحقها في الاستيلاء على العقارات المملوكة ملكية خاصة لمشروعاتها العامة وبين حق الملكية الخاصة لذوي الشأن من ملاك هذه العقارات. وتتمثل هذه القاعدة الجوهرية في أن تكون العقارات بالحتم والضرورة لازمة للمنفعة العامة بحيث يجب أن يكون المشروع المحقق للمنفعة العامة في حاجة حقيقية وضرورية لهذه العقارات..."
ج- للسلطة القضائية :
إذا كان منوط بالسلطة القضائية في كل الدول الفصل في الخصومات و المنازعات المعروضة عليها طبقا للإجراءات و بالكيفية التي حددها القانون، فإن هذه السلطة هي الأخرى مكلفة بالخضوع لمبدأ المشروعية في أعمالها . فإذا كان القانون قد رسم قواعد الاختصاص النوعي و نظم عمل جهات قضائية معينة كأن وزع الاختصاص بين جهات القضاء العادي و الإداري ، فإنه لا يجوز لجهة قضائية ذات طبيعة إدارية مثلا أن تفصل في خصومة مدنية هي من اختصاص المحاكم المدنية.
فكأنما مبدأ المشروعية يلزم كل سلطة من السلطات بأن تعمل في إطار قانوني محدد فإن حادث عنه، عد عملها غير مشروع و نجم عنه البطلان . من أجل ذلك تدخل المشرع ضابطا مجال اختصاص السلطات الثلاث المذكورة بقواعد جزائية تكفل قانون العقوبات بتحديدها .
و بهدف تفعيل مبدأ المشروعية أقرت مختلف الأنظمة القانونية أطرا رقابية معينة كالرقابة على دستورية القوانين التي تمارسها المحاكم الدستورية أو المجالس الدستورية. و الرقابة البرلمانية على أعمال الحكومة من خلال آليات الأسئلة الشفوية و المكتوبة و من خلال لجان التحقيق. و الرقابة الإدارية التي تمارسها الوزارات المختلفة و الهيئات و اللجان الخاصة بالكيفية التي حددها القانون. والرقابة القضائية التي تمارسها المحاكم على اختلاف درجاتها . و الغرض الأساس من خلال ممارسة كل هذه الأشكال من الرقابة هو العمل على تجسيد دولة القانون في أرض الواقع و التي لا يمكن أن تتحقق إلا من خلال مبدأ المشروعية.
المطلب الثالث
شروط تطبيق مبدأ المشروعية
إذا كان مبدأ المشروعية يحتل مكانة مميزة كأحد أهم مبادئ القانون إطلاقا ، فإن تجسيده في أرض الواقع يفرض توافر ثلاثة شروط ينجم عن تخلف أحدها غياب ما يسمى بمبدأ سيادة القانون و بالتالي اختفاء معالم و مظاهر الدولة القانونية. و هذه الشروط هي :
- الأخذ بمبدأ الفصل بين السلطات.
- التحديد الواضح لسلطات و اختصاصات الإدارة.
- وجود رقابة قضائية فعالة.
1- الأخذ بمبدأ الفصل بين السلطات :
يقصد بمبدأ الفصل بين السلطات توزيع السلطات الأساسية في الدولة على هيئات مختلفة بحيث لا يجب أن تتركز هذه السلطات في هيئة واحدة بما ينجم عن ذلك من آثار قانونية بالغة الخطورة . ذلك أنه ما إن اجتمعت السلطات الثلاث في يد هيئة واحدة إلا و ترتب على ذلك حدوث انتهاك و تعسف . فلا يتصور إذا اجتمعت السلطات و تركزت في يد الهيئة التنفيذية فصارت لها على هذا النحو يد في التشريع و أخرى في القضاء وثالثة في التنفيذ، أن تسلم هذه الأخيرة بخضوعها للجزاء أو وقوفها للحساب أمام القضاء و هو جهاز تابع لها. من أجل ذلك ذهب الفقيه مونتسكيو إلى القول أن السلطة توقف السلطة. بمعنى أن تعدد السلطات كفيل بإحداث نوع من الرقابة على كل سلطة حتى لا تتفرد بالقرار بما يؤدي في النهاية إلى احترام مبدأ المشروعية.
2- التحديد الواضح لاختصاصات الإدارة :
لا يمكن أن يتحقق مبدأ المشروعية في أرض الواقع إلا إذا كانت أعمال و صلاحيات السلطة الإدارية أو التنفيذية واضحة و محددة . و يعود سر تحديد صلاحيات السلطة التنفيذية دون سواها إلى أن صلاحيات السلطة التشريعية واضحة و عادة ما يتكفل دستور الدولة بتبيان القواعد العامة لممارسة العمل التشريعي. و يتولى القانون تفصيل هذه القواعد . كما أن صلاحيات ووظائف السلطة القضائية واضحة و محددة فهي التي تتولى الفصل في المنازعات و الخصومات بما يقره القانون و طبقا للإجراءات المعمول بها.
ويبقى الإشكال بالنسبة للسلطة التنفيذية أو الإدارية اعتبارا من أنها السلطة الأكثر علاقة و احتكاكا بالإفراد، و أكثرها من حيث الأعوان العموميين، و من حيث الهياكل، بما يفرض تحديد مجال التعامل و الاختصاص تحديدا على الأقل في أصوله و أحكامه العامة بما يكفل احترام مبدأ المشروعية و بما يضمن عدم تعسف الجهات الإدارية .
ومن هنا فإنه ينجم عن تحديد اختصاص الجهات الإدارية المختلفة المركزية و الإقليمية و المرفقية توفير المناخ المناسب و الأرضية الملائمة لإعمال و تجسيد مبدأ المشروعية.
وتبعا لذلك فإن مبدأ المشروعية يوجب ضبط الإدارة باختصاص معين فيلزمها بالقيام بأعمال معينة ضمن إطار محدد. و هذا ما يدخل تحت عنوان التنظيم الإداري . فتسعى الدولة إلى ضبط اختصاصات الجهات الإدارية إن السلطة الإدارية في كل الدول تباشر نشاطات واسعة و متنوعة بقصد تحقيق المصلحة العامة . فهي من تتولى إنشاء المرافق العامة بقصد إشباع حاجات الأفراد المختلفة. وهي من تكفل المحافظة على النظام العام بعناصره الثلاثة الأمن العام و الصحة العامة و السكينة العامة . وهي من وضع القانون بين يديها وسائل للقيام بسائر أنشطتها سواء وسيلة القرار أو وسيلة العقد.
فإذا قامت الإدارة بإصدار قرارات خارج نطاق اختصاصاها عد عملها هذا غير مشروع و كذلك الحال في حال ابتعادها عن الهدف ألا و هو تحقيق المصلحة العامة.
المختلفة محاولة منها جبرها على احترام مبدأ المشروعية . وحتى لا تتخذ الإدارة من وسيلة القرار الإداري ذريعة لتحقيق مقاصد غير مشروعة مستغلة بذلك الطابع التنفيذي له .
3- وجود رقابة قضائية فعالة :
سبق القول أن مبدأ المشروعية يفرض توزيع الاختصاص بين أجهزة الدولة المختلفة بحيث تبادر كل سلطة إلى القيام بالأعمال المنوطة بها و المحددة في القواعد الدستورية أو قواعد القانون أو حتى النصوص اللائحية. و يفترض بعد رسم قواعد الاختصاص أن ينجم عن مخالفة قاعدة ما جزاء توقعه السلطة القضائية. إذ ما الفائدة من رسم حدود كل سلطة دون ترتيب أثر قانوني وجب تطبيقه عند المخالفة.
وعليه ، فإن مبدأ المشروعية يفرض من جملة ما يفرضه وجود سلطة قضائية تتولى توقيع الجزاء على المخالف في حال ثبوت التجاوز أو الخرق للقانون . فلو تصورنا أن السلطة الإدارية أصدرت قرارا غير مشروع فقامت بفصل موظف عن وظيفته دون تمكينه مثلا من ممارسة حق الدفاع عن نفسه، أو دون تمكينه من الإطلاع على ملفه التأديبي أو دون تبليغه لحضور الجلسة التأديبية ، فإنها في مثل هذه الحالات تجاوزت القانون وأعتبر قرارها غير مشروع . ويعود للقضاء المختص التصريح بعدم مشروعية القرار و من ثم إلغاءه لذات السبب بعد رفع الأمر إليه.
وعليه حق لنا وصف القضاء بأنه الدرع الواقي لمبدأ المشروعية. و هو من يحفظ مكانته و هيبته و يفرض الخضوع له . وهذه كلها تمثل معالم و مظاهر دولة القانون.
المطلب الرابع
مصادر مبدأ المشروعية
سبق البيان أن المقصود بمبدأ المشروعية ليس خضوع الدولة أو الإدارة للقانون بمعناه الضيق باعتباره مجموعة قواعد تضعها السلطة التشريعية ، بل المقصود به القانون بمعناه الواسع بما يشمله من قواعد مكتوبة و غير مكتوبة.
ومن هنا يمكن تصنيف مصادر المشروعية إلى قسمين رئيسيين هي المصادر المكتوبة و تشمل الدستور والمعاهدات والتشريعات العادية والتنظيمات أو اللوائح. و المصادر غير المكتوبة و تشتمل العرف و المبادئ العامة للقانون وهو ما سنفصله في المطالب التالية:
الفرع الأول
المصادر المكتوبة
يقصد بالمصادر المكتوبة مجموعات مدونة تحتوي على قواعد قانونية ملزمة تتفاوت في درجة قوتها القانونية .
و المصادر المكتوبة هي الدستور و المعاهدات و التشريعات العادية و اللوائح أو التنظيمات أو التراتيب كما يطلق عليها في تونس .
أولا الدستور :
يعتبر الدستور القانون الأسمى و الأعلى في كل دولة و يمثل قمة هرم النصوص القانونية وأعلاها مرتبة وأكثرها حجية على وجه الإطلاق . ويستمد الدستور علو مرتبة من مصدرين أساسيين أحدهما موضوعي و الآخر شكلي.
و يتمثل المصدر الموضوعي في أن الدستور يتكفل بضبط و تحديد أهم وأخطر علاقة ألا و هي علاقة الحكام بالمحكومين . وترتيبا على ذلك عاد له صلاحية تنظيم عمل السلطات الثلاث التشريعية و التنفيذية و القضائية. كما يتضمن إلى جانب ذلك الإعلان عن مجموع الحقوق و الحريات التي يتمتع بها الأفراد داخل الدولة.
أما المصدر الشكلي فيقصد مساهمة الشعب بصفة مباشرة في إقرار الوثيقة الدستورية و هذا باعتمادها بطريق الاستفتاء، و هو الأسلوب الغالب في ظل الدولة الحديثة أو المعاصرة . بل حتى ولو انتخب الشعب جمعية تأسيسية و كلفت بصياغة الدستور، فإن الشعب بهذا الطريقة يكون قد ساهم مساهمة غير مباشرة في صياغة الدستور .
ولقد ثار الخلاف في الفقه بشأن القيمة القانونية لديباجة الدساتير. فذهب البعض إلى القول أن المبادئ المذكورة في ديباجة الدساتير لها قيمة أعلى من قيمة القواعد الدستورية ذاتها، و هذا من منطلق أنها تتضمن المبادئ العامة و التوجيهات الأساسية التي بنيت عليها قواعد الدستور ذاته.
وذهب البعض الآخر إلى تصنيفها بنفس درجة القواعد الدستورية ذاتها فلها من الحجية و الإلزام ما للقاعدة الدستورية. وأنكر عليها فريق ثالث التصنيف الدستوري وألحقها بالقوانين العادية انطلاقا من فكرة أساسية أنها لو كانت على قدر من الأهمية و العلو لتمت الإشارة إليها في شكل قواعد موضوعية ولألحقت بالقواعد الدستورية و تمتعت بقدسيتها.
وهناك من رجال الفقه من أنكر القيمة الدستورية و القانونية لديباجة الدستور مكتفيا بوصفها بالمبادئ الفلسفية و السياسية فهي لا تخرج عن كونها مجرد أهداف وآمال يسعى من وضعوا الدستور تحقيقها و الوصول إليها .
وبرأينا الخاص فإن هذه المبادئ العامة الواردة في ديباجة الدستور لا يمكن فصلها عن القواعد الموضوعية أو القواعد الدستورية فهي جزء أساسي في الوثيقة الدستورية و تتمتع بذات الحجية. و لا يصح بنظرنا أن تضفى عليها قيمة قانونية أعلى من الدستور و هذا لسبب بسيط أن قواعد الدستور تحتل قمة هرم النصوص الرسمية. و لا يصح من جهة أخرى اعتبارها في موضع القانون العادي لأن في ذلك إسقاط من قيمتها القانونية و تنزيل من مرتبتها.
2- المعاهدات :
تعتبر المعاهدات مصدرا لمبدأ المشروعية و هذا بعد أن يتم التصديق عليها من جانب السلطة المختصة داخل الدولة. وفور التصديق عليها تصبح المعاهدة جزءا من التشريع الداخلي، بل إن بعض الدساتير كالدستور الجزائري يعترف لها بطابع السمو على القانون . وطالما احتلت المعاهدة درجة عليا ضمن هرم النصوص الرسمية سواء كانت أسمى من القانون أو تعادله و تماثله في القوة، فإن بنودها و موادها ملزمة للسلطات المعنية داخل الدولة .
3- القوانين العادية :
لعل أهم مصادر مبدأ المشروعة وفرة من حيث القواعد هي القوانين بحكم كثرتها و اختلاف موضوعاتها. فكثيرة هي النصوص القانونية التي تضعها السلطة التشريعية و تمس جهة الإدارة أو تنظم علاقاتها مع الأفراد كقانون الوظيفة العامة و قانون نزع الملكية للمنفعة العامة و القانون المنظم لرخص البناء و غيرها . فهذه المنظومات القانونية أيا كان موضوعها متى صدرت و تم نشرها أصبحت ملزمة للجهات الإدارية المختصة و ملزمة أيضا للأفراد فيما يتعلق بوضعيتهم و مركزهم.
والقانون إذا صدر لا يجوز إلغاءه أو تعديله إلا بقانون يماثله في الرتبة . فلا يجوز للسلطة التنفيذية إلغاء أو تعديل نص قانوني. و هذا ما قضت به محكمة القضاء الإداري بمصر بقولها : " مما لا جدال فيه أن القانون لا يعدل إلا بقانون آخر و أنه لا يجوز تعديل قانون بقرار من مجلس الوزراء ...."
4- التنظيمات أو اللوائح أو التراتيب :
وهي عبارة عن قرارات تنظيمية تتضمن قواعد عامة و مجردة و لا تخص مركزا بذاته تصدر عن الجهة الإدارية المختصة . وتشترك اللائحة مع القانون في أن كل منها يصدر بشكل عام و مجرد . و يختلفان خاصة من زاوية التدرج أو الحجية. فاللوائح تحتل مكانة أدنى من القانون العادي . وتنقسم اللوائح إلى أنواع منها اللوائح التنفيذية و اللوائح المستقلة و لوائح الضرورة و اللوائح التفويضية.
الفرع الثاني
المصادر غير المكتوبة
أولا: العرف
يقصد بالعرف ما جرى عليه العمل من جانب السلطة التنفيذية في مباشرة صلاحياتها الإدارية بشكل متواتر وعلى نحو يمثل قاعدة ملزمة واجبة الإتباع .
ذلك أن إتباع السلطة الإدارية لنمط معين من السلوك بشأن عمل معين بوتيرة واحدة وبشكل منتظم خلال مدة زمنية معينة مع الشعور بالإلزام ينشئ قاعدة قانونية عرفية. وهو ما أكده القضاء الإداري في كثير من المنازعات .
ومن التعريف أعلاه نستنتج أن للعرف ركن مادي وآخر معنوي.
أركان العرف
أ-الركن المادي:
ويتمثل في اعتياد الإدارة إتباع سلوك معين بصفة متواترة ومنتظمة خلال مدة زمنية معينة. فإذا اتبعت الإدارة سلوكا معينا فترة من الزمن ثم أعرضت عن إتباعه له في فترة أخرى، لا نكون بصدد عرف إداري وهذا نتيجة غياب صفة التواتر والاستمرارية .
ب- الركن المعنوي
ويقصد به أن يجري الاعتقاد لدى الإدارة وهي تتبع سلوكا معينا أنها ملزمة بإتباعه وأن الابتعاد عنه يعرضها للمسؤولية ويجعل عملها معيبا من حيث المشروعية. ومن المفيد التذكير أن العرف يشترط لتطبيقه من جانب الإدارة، أو القاضي ألا يكون مخالفا للنظام العام. وهو ما اعتبره البعض ركنا رابعا يجب توافره لاعتبار القاعدة عرفية.
ويجدر التنبيه أن الإدارة غير ملزمة بالاستمرار وفي جميع الحالات بإتباع سلوك معين ولا يجوز لها العدول عنه، بل تستطيع أن تغير أسلوبها ونمط سلوكها كلما دعت الحاجة إلى ذلك. ولا يعد عملها هذا مخالفا للعرف. وسلطة التعديل هذه اعترف بها القضاء الإداري. وهو ما أكدته المحكمة الإدارية العليا بمصر بقولها:
"...والعرف الإداري أصطلح على إطلاقه على الأوضاع التي درجت الجهات الإدارية على إتباعها أو مزاولتها نشاط معين وينشأ من استمرار الإدارة التزامها لهذه الأوضاع والسير على مباشرة هذا النشاط أن تصبح بمثابة القاعدة القانونية الواجب الإتباع ما لم تعدل بقاعدة أخرى مماثلة..."
ولقد حكم كثير من رجال الفقه على أن العرف في المجال الإداري يمارس دورا ثانويا ولا يلعب دورا بارزا في الكشف عن قواعد القانون الإداري على غرار الدور الذي يلعبه في مجال القانون المدني والتجاري مثلا. وهو الرأي الذي نميل إليه خاصة وأننا لم نجد بحسب بحث معمق أجريناه من خلال أحكام القضاء الإداري الجزائري أن هذا الأخير طبق قاعدة عرفية على نزاع معين.
وينقسم العرف إلى عرف مفسر وآخر مكمل، وبعض الدراسات أضافت العرف المعدل نوضح ذلك فيما يلي:
1-العرف المفسر:
يفترض هنا في هذه الحالة وجود نص قانوني أو تنظيمي غامض يحتوي مثلا على مصطلحات تحمل أكثر من تفسير، فيأتي العرف المفسر فيزيل هذا الغموض دون أن يضيف حكما جديدا للقاعدة الغامضة أو يحذف منها حكما قائما وموجودا غاية ما في الأمر أنه اقتصر على تفسير ما غمض من النص وهذا في حال إتباع الإدارة سلوكا منظما متوترا مدة زمنية طويلة.
وينبغي الإشارة أن العرف المفسر لا يمكن اعتباره مصدرا لمبدأ المشروعية الإدارية إلا إذ سكت المشرع أو المنظم على إصدار نص لاحق يفسر النص القديم. أي عند انعدام التفسير المكتوب نلجأ للقاعدة العرفية المفسرة فنبحث في سلوك الإدارة لترجمة هذا الغموض.
وإذا كنا نؤيد تطبيق كل من العرف المكمل والعرف المفسر، غير أننا لا نؤيد تطبيق ما يسمى بالعرف المعدل بصورتيه الإضافة والحذف. لأن التشريع متى صدر يجب أن يظل ساريا واجب النفاذ والتطبيق إلى أن يتم تعديله أو إلغاءه بالطرق والإجراءات التي حددها القانون. والقول بخلاف ذلك فيه إهدار للتشريع وتلاعب بحجية النصوص.
فالقول بوجود عرف معدل بالإضافة أو عرف معدل بالحذف، يعني أن القاعدة العرفية تطاولت في كلا الوضعيتين على تشريع قائم فحملته ما لم يرد فيه (في حالة الإضافة ) وحذفت منه شيئا موجودا أو قائما (في حالة الحذف) .
ولقد سبق الحديث عن أركان العرف ورأينا أن من شروط القاعدة العرفية أن لا تصطدم مع تشريع، فكيف يمكن تصور وجود قاعدة قائمة لم تعدل ولم يتم إلغاؤها، وتأتي القاعدة العرفية فتلغي هذه القاعدة التشريعية بحجة أن الإدارة لم تطبق التشريع خلال مدة زمنية طويلة وعلى سبيل الاستمرارية والتواتر.
2-العرف المكمل:
تهدف القاعدة العرفية المكملة إلى تنظيم موضوع سكت عنه المشرع أو المنظم. فنحن إذن أمام حالة فراغ بشأن النص الرسمي المكتوب، فتأتي القاعدة العرفية فتكمل هذا النقص. وهنا يبرز دورها كمصدر من مصادر المشروعية الإدارية بشكل أوضح وبمساهمة أكبر خلافا لدور العرف المفسر الذي اكتفى بتفسير ما غمض من النص المكتوب.
3-العرف المعدل:
ورد في الكثير من مراجع القانون الإداري عند الحديث عن مصادر هذا القانون تسمية العرف المعدل، وقسم هذا الأخير إلى نوعين:
أ-العرف المعدل بالإضافة :
نكون أمام عرف معدل بالإضافة إذا لم يتطرق التشريع لمسألة معينة وجاء دور العرف ليقدم إضافة جزئية للتشريع، فالعرف هنا أضاف قاعدة جديدة لم يرد ذكرها في النص الرسمي.
ب-العرف المعدل بالحذف:
ويتمثل في هجر جهة الإدارة لنص تشريعي لمدة طويلة حيث تولد شعور لديها ولدى الأفراد أن هذا النص المهجور غير ملزم للإدارة وللأفراد.
التمييز بين العرف الإداري والعرف المدني:
إذا كان العرف يشكل مصدرا رسميا لكل من القانون الإداري والقانون المدني، إلا أن الاختلاف بين العرف الإداري والعرف المدني قائم ويمكن حصره فيما يأتي:
1-من حيث مصدر الإنشاء (سلطة الإنشاء):
إن الإدارة في القانون الإداري هي التي تنشئ القاعدة العرفية فسلوكها هو محل اعتبار لا سلوك الأفراد. بينما العرف المدني ينشأ من خلال إتباع الأفراد أنفسهم لقاعدة ما، خلال مدة زمنية معينة بشكل منتظم وغير متقطع مع شعورهم بإلزامها.
2-من حيث موضوع القاعدة:
إن موضوع القاعدة العرفية في المجال الإداري تتعلق دائما بالمصلحة العامة وبالخدمة العامة، بينما القاعدة العرفية في المجال المدني تتعلق أساسا بالمصلحة الخاصة للأفراد الخاضعين لهذه القاعدة.
وجدير بنا الإشارة أن تسامح الجهة الإدارية بشأن عدم تطبيق قانون معين لا ينشئ في كل الحالات قاعدة عرفية. فلو تصورنا مثلا أن السلطة التشريعية في الدولة صادقت على قانون يمنع التدخين في الأماكن العمومية وبادر رئيس الجمهورية لإصداره في الجريدة الرسمية، وتم توزيعه على الجهات المعنية بالتطبيق، فلو حدث أن جهة ما ولتكن وزارة النقل على مستوى المطارات مثلا تساهلت في تطبيق هذا القانون ولم تخضع المخالفين للنص المذكور للجزاءات التي حددها القانون ولو مدة طويلة، فلا يمكن الاحتجاج بهذا السلوك مهما طال على أنه يشكل قاعدة عرفية لأن القول بذلك يعني أن العرف أعدم التشريع وأبطل مفعوله وفي هذا طعن في مشروعية القاعدة العرفية .
ثانيا المبادىء العامة للقانون
يقصد بالمبادىء العامة للقانون مجموعة القواعد القانونية التي ترسخت في وجدان وضمير الأمة القانوني ويتم اكتشافها واستنباطها بواسطة المحاكم، وهي تختلف عن المبادىء العامة المدونة في مجموعة تشريعية كالقانون المدني. لأن مصدر هذه الأخيرة هو التشريع لا القضاء. ولعل السؤال يطرح من أين تستمد مجموع المبادئ العامة التي أقرها القضاء في المواد الإدارية قوتها القانونية؟
لقد احتدم النقاش في الفقه على أشده بشأن هذا الأمر، ونستطيع رده إلى أربعة آراء:
الرأي الأول: أساس المبادئ العامة هي القواعد المكتوبة:
ذهب رأي في فقه القانون الإداري إلى أن المبادئ العامة في المجال الإداري التي يرسخها القضاء تستمد قوتها الملزمة من مجموع المبادئ المحددة في المواثيق والدساتير، خاصة وأن هذه الأخيرة حوت الكثير من القواعد التي تهم الإدارة بشكل عام كمبدأ المساواة أمام القضاء ومبدأ المساواة في الالتحاق بالوظائف العامة وحق الدفاع وغير ذلك.
تقدير الرأي الأول:
لقد أصاب المدافعون عن القواعد المكتوبة كأساس للمبادئ العامة في المجال الإداري ولو جزئيا في وجهة نظرهم. غير أنه لا يمكن الاعتماد عليها كليا، والأخذ بها بصفة مطلقة، وذلك بسبب أن القواعد المكتوبة والواردة في المواثيق والدساتير، لا يرد فيها عدا وحصرا كل المبادئ العامة، بل أنها حوت البعض منها كمبدأ المساواة في الالتحاق بالوظيفة وحق الدفاع وغيرها. ولم يرد فيها ذكر لمبادئ أخرى هي على غاية من الأهمية كمبدأ حسن سير المرافق العامة، ومبدأ عدم رجعية القرارات الإدارية ومبدأ تدرج العقوبات وغيرها.
الرأي الثاني
ذهب جناح في الفقه إلى القول أن أساس القوة الملزمة للمبادئ العامة يعود إلى فكرة القانون الطبيعي كفكرة جوهرية في علم القانون تدور حولها مجموع قواعده وأحكامه.
تقدير الرأي الثاني:
آخذ كثير من رجال الفقه على هذه النظرة والتأصيل أنها جاءت في غاية من الإطلاق والعمومية والتجريد، كما أن مبادئ القانون الطبيعي قد تخالف القواعد المحددة في القانون الإداري .
الرأي الثالث: العرف أساس المبادئ العامة
ذهب الفقيه مارسيل فالين أن المبادئ العامة للقانون تستمد قوتها الملزمة من العرف، فالقواعد العرفية هي التي تضفي على المبادئ العامة الصفة الملزمة خاصة حينما يتعود القضاة على تطبيق هذه القواعد ويعملون على ترسيخها .
تقدير الرأي الثالث:
إن هذا الرأي لا شك يخلط بين العرف كمصدر مستقل لمبدأ المشروعية، وبين المبادئ العامة باعتبارها مجموعة أحكام ترسخت في وجدان الجماعة، وعمل القضاء الإداري على إظهارها بحكم الدور الإنشائي للقاضي الإداري، وهذا بسبب الاختلاف الكبير في الدور بين القاضي العادي والقاضي الإداري. فالقاضي العادي عادة ما تكون إرادته مقيدة بالنص، فهو ملزم بتطبيقه على الخصومات المعروضة عليه، بينما القاضي الإداري وضعه يختلف تماما فهو من جهة يواجه بمحدودية دور التشريع، ودور العرف، وهو ما يفرض عليه وضع القاعدة أولا ثم تطبيقها ثانيا. لذلك رأى غالبية الفقه أن القاضي الإداري على وضعه هذا يكون مفوضا من قبل المشرع لأن يسن قاعدة خاصة تحكم المنازعة التي بين يديه إذا انعدم بشأنها نص أو عرف.
ولقد أفصحت المذكرة الإيضاحية لقانون مجلس الدولة في مصر رقم 63 لسنة 1955 عن الطبيعة الإنشائية للقضاء الإداري بقولها:" يتميز القضاء الإداري بأنه ليس بمجرد قضاء تطبيقي كالقضاء المدني، بل هو في الأغلب قضاء إنشائي يبتدع الحلول المناسبة للروابط القانونية التي تنشأ بين الإدارة في تسييرها للمرافق العامة وبين الأفراد"
ولا يقلل من دور القضاء الإداري أنه قد يلجأ لقواعد القانون المدني مثلا أو بصفة عامة لمجموع النصوص التي تشكل النسيج القانوني الذي يحكم المجتمع، لأن السلطة التقديرية تظل بيد القاضي الإداري فهو وحده من يقدر مدى صلاحية القاعدة القانونية لتحكم صورة من صور النشاط الإداري.
المبحث الثاني
ضمانات مبدأ المشروعية ودور القضاء الإداري
بغرض تكريس مبدأ المشروعية على أرض الواقع وجب تحريك وتفعيل آليات الرقابة المختلفة سواء السياسية أو الإدارية أو البرلمانية أو القضائية حتى تمارس كل جهة دورها في إلزام الإدارة بالخضوع للقانون، وبالتالي الوصول إلى الهدف الأسمى ألا وهو إقامة الدولة القانونية.
وسنتولى باختصار إعطاء لمحة وجيزة عن كل نوع من أنواع الرقابة
1-الرقابة السياسية:
وهي الرقابة التي يمارسها الرأي العام والمؤسسات أو التنظيمات السياسية وما يعرف بالجماعات الضاغطة. وطالما نحن بصدد الحديث عن المشروعية الإدارية فإن رقابة هذه الجهات ستنصب بالأساس على الإدارة وتتركز حول عمل من أعمالها أو قرار صادر عنها. فرقابة الرأي العام أو الجمهور هي رقابة شعبية يمارسها المواطنون بفئاتهم وطوائفهم المختلفة وانتماءاتهم الحزبية، وهذا من خلال موقف معين إزاء مسألة معينة تخص الإدارة.
ويعبر الرأي العام عن موقفه بالاحتجاج أو الاستياء أو التنديد والسخط والرفض لممارسات أو سلوك أو تصرفات إدارية. وقد يكون ذلك من خلال الإضراب أو العصيان المدني أو باستعمال وسائل الإعلام. والهدف من هذا الموقف هو حمل الحكومة (الإدارة) على التخلي عن موقف معين أو تغيير إجراءات معينة سبق وأن اتخذتها .
أما رقابة الأحزاب والجماعات الضاغطة تمارسها الأحزاب والمنظمات الفاعلة في المجتمع من خلال هياكلها النظامية وبالوسائل المشروعة بغرض الضغط على الجهة الإدارية لحملها على التراجع عن موقف اتخذته أو قرار أصدرته. وقد تلتقي الرقابة السياسية بغيرها من أنواع الرقابة الأخرى كالرقابة البرلمانية فيسعى الحزب إلى تحريك ممثليه في البرلمان للضغط على الحكومة بشأن مسألة معينة.
2-الرقابة الإدارية .
وهي الرقابة التي تباشرها الإدارة نفسها فهي رقابة ذاتية وتتم صورها بأحد الشكلين فقد تمارس سلطة الرقابة على القرارات مثلا الإدارة مصدرة القرار ذاته. وقد تمارس الرقابة جهة إدارية خارجية عادة ما تكون سلطة الوصاية الإدارية والتي قد تبادر إلى سحب القرار أو تعديله أو تعليق سريانه.
وتتميز الرقابة الإدارية أنها لا تنصب فقط على مشروعية العمل، بل على ملائمته أيضا لظروف المكان والزمان. فهي رقابة شاملة . والأصل عدم خضوعها لشكليات وإجراءات ما لم يقض القانون بخلاف ذلك. كما تتميز الرقابة الإدارية بالسرعة وبساطة الإجراءات بما يمكن من تحقيق غايتها في آجال معقولة.
ويعاب عن الرقابة الإدارية أنها رقابة غير حيادية وغير موضوعية. وأنها تجعل من جهة الإدارة خصما باعتبارها مصدرة القرار أو من صدر عنها العمل المطعون فيه. وحكما باعتبارها هي من تفصل في التظلم أو الشكوى المرفوعة إليها.و ما يؤكد وجود هذه الظاهرة أن الإدارة في كثير من الأنظمة القانونية لا تلتزم بالرد على التظلمات المرفوعة أمامها وتجعل المواطن معلقا ينتظر الإجابة إلى غاية انتهاء الأجل المحدد قانونا، بما يمكنه من اللجوء للقضاء المختص بعد انتهاء هذا الأجل .
3-الرقابة البرلمانية:
يمارس البرلمان في غالبية النظم القانونية رقابته على الحكومة. وتختلف آليات الرقابة ومظاهرها حسب طبيعة النظام الدستوري السائدة في الدولة .وتتجسد معالم هذه الرقابة في حق ممثلي الشعب بصرف النظر عن انتماءاتهم الحزبية في طرح أسئلة شفوية أو كتابية لعضو الحكومة (الوزير) للإجابة عنها. فإذا أصدرت جهة إدارية قرارا بالإمكان أن ينتقل رد الفعل الناتج عن صدوره على مستوى البرلمان. فيسأل الوزير عن أسباب إصداره وأهدافه. وقد يعلن بفعل الضغط الممارس عليه تراجع وزارته عن القرار محل المساءلة.
فالرقابة البرلمانية لها عظيم الأثر في جبر وإلزام الجهات الإدارية المختلفة على التقيد بالقانون، ومراعاة مبدأ المشروعية في تصرفاتها وأعمالها خاصة إذا ما وضعنا بعين الاعتبار أن جلسات البرلمان تتم بصفة علنية وتنقل مجرياتها عن طريق وسائل الإعلام، الأمر الذي من شأنه أن يجعل الضغط مزدوج الأثر في قاعة البرلمان من جهة، وضغط الصحافة والرأي العام من جهة أخرى.
وتتجلى الرقابة البرلمانية في إنشاء لجان مؤقتة تكلف بالتحقيق حول مسائل عامة، فإذا ما أثيرت حول جهة إدارية شبهة قائمة جاز لأعضاء البرلمان تشكيل لجنة للتحقيق في الأمر.
4-الرقابة القضائية:
إذا كان مبدأ المشروعية الإدارية مسيجا بجملة من أشكال الرقابة الإدارية والسياسية والبرلمانية وأن لكل من هذه الأنواع جهاتها وإجراءاتها ونطاقها، فإن وجود رقابة قضائية تمارس على أعمال الإدارة المختلفة المادية والقانونية أمر لابد منه لتأكيد سيادة القانون على الحاكمين قبل المحكومين.
فلا ينبغي أن يتخذ من مبدأ الفصل بين السلطات حجة وذريعة للقول مثلا أنه ليس من حق القضاء التدخل في شؤون الإدارة، لأن مثل هذا الطرح إذا ما أثير فمن شأنه أن يفكك كل معالم دولة القانون أو الدولة القانونية .
إن الدولة القانونية تبدأ من فكرة أن كل عمل أو قرار من الممكن عرضه على جهة القضاء المختص لفحصه وتقدير مشروعية ورقابته. وقد يؤدي الأمر إلى إلغاءه مع ترتيب أثار الإلغاء. إذ ما الفائدة التي يجنيها المواطن إذا كانت حقوقه ثابتة بموجب نصوص دستورية وقانونية كحق الملكية مثلا، إذا لم نعترف له باللجوء للقضاء في حال خرق الإدارة للقانون ونزعها لملكية دون مراعاة الجوانب الإجرائية، ودون التقيد بالنصوص الرسمية التي تحكم عملية النزع. لا شك أن تصورا من هذا القبيل ينجم عنه العودة بالمجتمع البشري إلى مراحله السابقة والقديمة حيث كانت الدولة وهيئاتها لا تتقيد بالقواعد ولا تلتزم بضابط أو إجراء.
وتأسيسا على ما تقدم فإن الرقابة القضائية تحتل مكانة متميزة ضمن أشكال وصور الرقابة. فالفرد هو من يدافع عن مصلحته ويسارع إلى عرض دعواه على جهة القضاء بعد استيفاء جملة الإجراءات المنصوص عنها قانونا.
إن الدعاوى الإدارية المختلفة سواء دعوى الإلغاء أو دعوى التفسير أو دعوى الفحص أو دعوى التعويض وغيرها من الدعاوى الأخرى تمثل ضمانة أساسية لمبدأ المشروعية الإدارية. وتمكن جهة القضاء المختص من ممارسة رقابته على جهة الإدارة، ومن ثم التصريح في حال ثبوت الخرق بإعدام القرار المطعون فيه أو إقرار مسؤولية الإدارة مع التعويض عن العمل الضار وغير ذلك من القرارات القضائية. وينظر القضاء الإداري في الدعاوى المرفوعة أمامه بصفة مستقلة فلا سلطان للإدارة وينبغي الإشارة أن الإدارة في كثير من الأنظمة القانونية قد تتطاول على أحكام القضاء وتتمرد على تنفيذها رغم أن المشرع فتح السبيل القانوني أمام صاحب الحق في اللجوء للقضاء الجزائي كما هو الحال في مصر والجزائر. غير أنه ورغم فتح هذا السبيل ، إلا أن الملاحظ في كثير من الأنظمة العربية أن الإدارة قد لا تمتثل لأحكام القضاء خاصة إذا تعلق الأمر بدعوى الإلغاء .
المبحث الثالث
خصوصية المنازعة الإدارية ودور القضاء الإداري
يساهم القضاء الإداري في الدول العربية بدور في غاية من الأهمية في مجال مراقبة مشروعية الأعمال الإدارية وحماية حقوق وحريات الأفراد وهذا من خلال فصله في القضايا المعروضة عليه ويستمد القضاء الإداري هذه الأهمية من وظيفة الطبيعة كونه الجهاز الرسمي الذي يفرض حكم القانون على جميع الهيئات وأيا كان مركزها وموقعها وطبيعتها كما يفرض حكم القانون على الأفراد وهو مايؤدي في النهاية إلى إقامة دولة القانون ودولة المؤسسات ودولة الحقوق والحريات ولا يمكن تكريس هذه المفاهيم في أرض الواقع دون دور للقضاء الإداري .
وإذا كانت مختلف القوانين العربية اعترفت للإدارة بسلطة إصدار قرارات إدارية وأن هذه القرارات تتمتع بالطابع التنفيذي وأن الإدارة لا تحتاج إلى اللجوء لسلطة أخرى ولتكن القضاء لتنفيذ قراراتها فإن الدساتير العربية أيضا اعترفت من جهة أخرى للفرد بحقه في اللجوء للقضاء لرد المظالم ووضع حد لكل تعسف قد يلاقيه من جانب الإدارة خاصة وأنه الطرف الضعيف في العلاقة بما يفرض بسط حماية له من كل اعتداء.
وإذا كان القضاء العادي ممثلا في المحاكم العادية والابتدائية وجهات الاستئناف وقضاء النقض هو الآخر يصون مبدأ المشروعية بصفة عامة ويحفظ الحقوق المقررة قانونا . وكذلك القضاء الدستوري يتولى حماية مبدأ دستورية القوانين والأنظمة فإن القضاء الإداري يظل مع ذلك يتمتع بخصوصية لا نجدها في غيره من القضاء وتتجلى هذه الخصوصية فيما يلي :
1-أن المنازعة الإدارية أحد أطرافها سلطة إدارية وقد تكون سلطة مركزية أو إدارية محلية أو مرفق عام ذو طابع إداري . فالنزاع لا يتعلق بأشخاص القانون الخاص كما هو الحال بالنسبة للقضاء المدني بل نزاع أحد أطرافه سلطة عامة ، وبذالك تميزت المنازعات الإدارية عضويا عن الخصومة المدنية .
2-يتعلق موضوع النزاع بمسألة لها علاقة بالمصلحة العامة . فلو تصورنا أن النزاع يدور حول نزع ملكية للمنفعة العامة ، أو فصل موظف عن وظيفة ، فإن القرار الإداري وإن مس مركزا قانونيا فرديا ، إلا أنه يتعلق المصلحة عامة اقتضت إصدار قرار النزاع أو قرار العزل ، وهو يميز المنازعة الإدارية من حيث الموضوع عن الخصومة المدنية التي يحكمها مبدأ المساواة بين الأطراف
3-يمارس القاضي الإداري سلطات واسعة في مجال المنازعات الإدارية ، فهو من ي