مقدمة:
الإنسان بطبعه يحتاج إلى الاجتماع مع غيره لتلبية حاجاته، لكن حب السيطرة والتسلط لديه يدفع به للصدام مع غيره، مما يتطلب وجود سلطة تقوم بمهمة حماية الحقوق وتنظيم حياة الأفراد.
وبظهور السلطة التي تنظم العلاقة بين الحكام والمحكومين تظهر السمات الأساسية للدولة، التي تضطر إلى تحديد نطاق سلطتها ومداها، وذلك من خلال النظام القانوني الذي يحكم العلاقات داخل الدولة، وهو ما يعرف بقواعد القانون الدستوري التي تحدد نظام الحكم في الدولة.
لتناول موضوع القانون الدستوري يستدعي البحث في مسألة النظرية العامة للدولة، ثم نفرد قسما خاصا للنظرية العامة للدساتير، نتبعه بقسم نتناول فيه طرق ممارسة السلطة والنظم السياسية المعاصرة.
الفصل الأول: النظرية العامة للدولة.
إذا كانت النظرية العامة للدولة لم تكتمل بعد بسبب اختلاف الفقهاء في تحديد تعريف للدولة نفسها يكون جامعا مانعا، فإن الدراسات الفقهية والبرامج الدراسية التي تناولتها تتفق على تناول المواضيع التالية:
تعريف الدولة وبيان أصل نشأتها ثم أركان الدولة وخصائصها ثم أشكال الدول ووظائفها، هذا ما سنتناوله خلال المباحث التالية.
المبحث الأول: تعريف الدولة.
منذ القدم والدولة تعد مجال اهتمام كبير لدى الفقهاء ورجال القانون والسياسة، واتخذت مفاهيم متعددة عبر العصور عندما تكونت الأسر والعشائر والقبائل، إلى أن أصبحت دول كما هي الآن، وعليه سوف نتناول من خلال هذا المبحث التعريف اللغوي وكذا التعريفات الاصطلاحية للدولة في مطلبين.
المطلب الأول: المعنى اللغوي للدولة.
نلاحظ أن كلمة (دولة) بضم الدال تدل على الشيء الذي يتداول به وهذا ينطبق خاصة على المال، الذي ينتقل من يد إلى يد، وفي هذا المعنى جاء قوله تعالى: » كي لا يكون دُولة بين الأغنياء منكم.» كما تدل كلمة دولة على السنن المتغيرة، أما لفظ (دَولة) بفتح الدال فيشير إلى حالة الانتصار في الحرب أو الانهزام فيها، كما يقال اللهم أدلني على فلان أي انصرني عليه، وفي هذا المعنى يقال كذلك الدَولة لنا أي الغلبة لنا والنصر حليفنا. وهذا المعنى الأخير هو الأقرب إلى المدلول الاصطلاحي للدولة.
..................../..............
لمطلب الثاني: المعنى الاصطلاحي للدولة.
اختلف الفقهاء في موضوع مفهوم الدولة ولم يتوصلوا إلى وضع تعريف شامل وموحد لها، وذلك راجع إلى أن الدولة هي ظاهرة اجتماعية معقدة تطورت بتطور المجتمعات البشرية.
ـ الدولة عند أفلاطون وأرسطو: في الحقيقة إن تعبير الدولة كان معروفا منذ القدم عند أفلاطون، وأرسطو الذي يرى بأن الدولة تتمثل في مدينة أثينا في اليونان والتي عاش فيها ويعرفها كالآتي : (هي ذلك المجتمع من الأفراد الذي يتألف ابتغاء تحقيق مصلحة عامة). أما عند الرومان فقد عرف مصطلح الدولة مدلوله السياسي الذي يعني دولة المدينة (CITY STATE ) وهي تتكون من روما التي تشتمل على عدة قبائل يحكمها ملك منتخب يعانوه مجلس استشاري تجسيدا لمبدأ الشعب هو مصدر السلطة، والتي توسعت بسبب الغزو والحروب إلى أن أصبحت إمبراطورية في القرن الأول قبل الميلاد.
ـ الدولة عند ميكيافلي: هذا المفكر الإيطالي كتب عن الدولة ووظائفها وأركانها في كتابه الأمير سنة 1513 ومن بين ما جاء في كتابه ( هي المنظمة المخولة بما تملكه من سلطة فعلية للتحكم في استعمال القوة على شعب معين في إقليم معين.) وهنا يشترط القوة كشرط أساسي لوجود الدولة واستمرارها وهو في ذلك متأثر بما عايشه من أحداث لإمبراطوريات حكمت شعوبها بالحديد والنار.
ـ الدولة عند دوجي ودي مالبيرج: حاول هذان الفقيهان إعطاء مفهوم محدد لمصطلح الدولة حيث جاء في تعريف دي مالبيرج في عام 1920 بأنها ( مجموعة من الأفراد تستقر على إقليم معين تحت تنظيم خاص يعطي جماعة معينة فيها سلطة عليا تتمتع بالأمر والإكراه.).
ـ الدولة عند هوريو وجيكول: يعرفان الدولة بأنها ( جماعة مستقرة داخل إقليم معين تحتكر سلطة الإكراه المادي.).
ـ الدولة عند الفقيه هنسلي: يعرفها هذا الفقيه الإنجليزي بأنها (مؤسسة سياسية يرتبط بها الأفراد من خلال تنظيمات متطورة.).
ـ الدولة عند الأستاذ محسن خليل: حيث يعرفها بأنها ( جماعة من الأفراد تقطن على وجه الدوام والاستقرار إقليما جغرافيا معينا وتخضع في تنظيم شؤونها لسلطة سياسية تستقل في أساسها عن أشخاص من يمارسونها.).
رغم تعدد التعريفات إلا أنها تصب في اتجاه واحد.
تعريف الأمم المتحدة: هذا التعريف معتمد من قبل الأمم المتحدة ومعمول به حاليا وفحواه أن الدولة ( هي الكيان السياسي والقانوني الذي يثبت وجود شعب يقيم على إقليم معين يتمتع بسيادة تامة وله حكومة مستقلة.) هذا التعريف تتضح من خلاله أركان الدولة وهي الشعب والإقليم والسلطة السياسية. وهو ما سنتناوله بالتفصيل في موضوع أركان الدولة.
................./..............
المبحث الثاني: أصل نشأة الدولة.
اختلاف العلماء في تحديد أصل نشأة الدولة يرجع إلى صعوبة حصر كل الظروف والعوامل التي ساهمت في تكوينها، لأن الدولة ـ كما هو معلوم ـ هي ظاهرة اجتماعية معقدة ترجع جذورها إلى الحضارات القديمة، وهي في تطورها تتفاعل مع الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية السائدة.
ونتيجة ارتباط السلطة بالدولة، فإنه أصبح من المتعذر فصل إحداهما عن الأخرى، لذلك فإن النظريات التي قيلت بشأن الدولة تصلح أيضا لتفسير أساس السلطة السياسية فيها.
ومن أهم النظريات التي سنتناولها، النظريات الدينية ( التيوقراطية) نظريات القوة والغلبة، النظريات العقدية(الديمقراطية) نظريات التطور، والنظريات المجردة.
المطلب الأول: النظريات الدينية.
وهي التي ترجع أصل نشأة الدولة وتأسيس السلطة إلى الإرادة الإلهية والحاكم يدعي أنه يستمد سلطته من قوى غيبية عليا تسمو على طبيعة البشر. هذه النظريات بالرغم من التقائها حول فكرة إرجاع السلطة في الدولة إلى الإرادة الإلهية فإنها اختلفت في تفسير ذلك إلى ثلاث اتجاهات هي:
الفرع الأول: نظرية تأليه الحكام.
تقوم هذه النظرية على أساس أن الحاكم من طبيعة إلهية يعبد ويقدس، وهذا المفهوم كان سائدا في الحضارات القديمة وبصفة خاصة في الحضارة الفرعونية في مصر حيث كان الفرعون (رع) يدعي الألهية وكان يعبد من قبل الأفراد، وكذلك الشأن في الصين كانت سلطات الإمبراطور تقوم على أساس ديني، وكذلك الأمر في الهند حيث كان الملوك يدعون اتصاف الآلهة في صورة بشر ويستمدون سلطتهم من الإله الأكبر ( البراهما) وفي العصر الملكي المطلق في روما كان الملك هو الكاهن الأعظم بحيث يسن القوانين ويعدلها ويفسرها.
وقد وجدت هذه النظرية صدى لها حتى في العصر الحديث، فالشعب الياباني كان إلى غاية الحرب العالمية الثانية يعتبر الإمبراطور بمثابة إله يعبده الأفراد ويقدسونه.
الفرع الثاني: نظرية الحق الإلهي المباشر.
يذهب أنصار هذه النظرية إلى أن الله هو الذي اختار بنفسه مباشرة الحكام وأودعهم السلطة، فالحاكم وإن كان من البشر إلا أنه يستمد سلطته من الله مباشرة . ظهرت هذه النظرية بعد ظهور المسيحية، والتي لم يعد بعدها ينظر إلى الحاكم من البشر على أنه إله، وجعلت الدين لله ولا عبادة لغيره وأضافت تبريرا لوجودها بأن جعلت السلطة للبابا.
وقد اعتبر القديس سان بول (ST-PAUL ) بأن كل سلطة مصدرها الإرادة الإلهية، ومنه تكون سلطة الحاكم ملزمة لأنه ليس إلا منفذا لإرادة الله، ومن عصى الأمير فقد عصى الله. كما استخدم هذه النظرية ملوك فرنسا لتدعيم سلطاتهم على الشعب وقالوا إن الله هو مصدر السلطة لا الشعب ولا يسأل الملوك عن سلطاتهم إلا أمام الله.
واضح أن هذه النظرية تهدف إلى تبرير سلطان الملوك المطلق وجعلهم غير مسئولين أمام رعاياهم ولا يراقب أعمالهم أحد.
الفرع الثالث: نظرية الحق الإلهي غير المباشر.
نظرية الحق الإلهي غير المباشر كانت نتيجة لانهيار الإمبراطورية الرومانية في القرن الخامس ميلادي حيث سيطرت الكنيسة على العالم المسيحي ولم يعد الملك يستطيع ممارسة مهامه إلا بعد قيام الكنيسة بالطقوس الدينية الخاصة بتتويجه، نظرا لكونها ممثلة الشعب المسيحي مما أدى إلى ظهور نظرية التفويض الإلهي غير المباشر ومفادها أن الله لا يتدخل بطريقة مباشرة في اختيار الحاكم وإنما بطريقة غير مباشرة يوجه الأحداث ويرتبها على نحو يساعد الناس على اختيار نظام الحكم والحاكم الذي يرتضونه.
ولقد لعبت هذه النظرية دورا بالغا في تقييد سلطة الملوك وبالمقابل ساهمت في تدعيم سلطة الكنيسة ممثلة الشعب المسيحي. إذا كانت هذه النظرية قد أسهمت في ظهور بعض الدول إلا أنها تقوم على أساس عقائدي يفتقر إلى العقل والمنطق، وذلك لأنه لم يثبت تاريخيا وجود هذا التفويض الإلهي لأي حاكم من الحكام، ولكن كان الهدف الأساسي هو إسقاط المسئولية عن الحكام أمام المحكومين، وبالتالي استعملت كباقي النظريات لتكريس استبداد الحكام وتجبرهم.
مطلب الثاني: نظريات القوة والغلبة.
يرى أنصار هذه النظرية وعلى رأسهم الفقيه الألماني الشهير أوبنهيمر (Oppenheimer) والكاتب الفرنسي شارل بيدان (Charles boudant) أن الدولة كانت عبارة عن نظام اجتماعي معين، فرضه شخص أو فريق على بقية أفراد الجماعة مستخدمين القوة من خلال الحروب والصراعات تتشكل الدول.
ونظرا لكثرة الاتجاهات واختلافها حول هذا الموضوع وإن كانت تعتمد كلها على القوة والغلبة المادية والجسمانية أو المعنوية غير الدينية فإننا سنكتفي بذكر أهمها على التوالي:
الفرع الأول: نظرية ابن خلدون.
يقول العلامة ابن خلدون رائد هذه النظرية ( ولما كانت الرياسة إنما تكون بالغلب وجب أن تكون عصبية ذلك النصاب هو أقوى من سائر العصائب ليقع الغلب وتتم الرياسة لأهلها وكل عصبية منهم إذا أحست بغلب عصبية الرئيس لهم أقروا بالإذعان والإتباع ) ويفسر ابن خلدون قيام الدولة بثلاثة عوامل أساسية هي الزعامة والعصبية و العقيدة.
أولا: الزعامة .
تقوم الدولة من خلال ظهور زعيم تتوفر فيه شروط الزعامة مثل الاستقامة والكرم والشجاعة والمروءة ويفرض نفسه بالقوة.
ثانيا: العصبية.
تلعب العصبية دورا أساسيا عند البدو قبل طور الحضارة في مجال التماسك الاجتماعي، مما ينتج عنه شعور الأفراد بالانتماء إلى جماعة معينة على تشكيل قوة تدفعها إلى إخضاع الجماعات الأخرى الضعيفة.
ثالثا: العقيدة.
إن العقيدة عند ابن خلدون هي العامل الأساسي والقوي في تماسك الجماعات وقد اعتبر أن قيام مجتمع على أساس العصبية والعقيدة سيزيد في استقراره ودوامه وأعطى مثال لذلك بالمرابطين الذين قاموا على الدين والعصبية واستطاعوا الصمود كثيرا كقوة اجتماعية.
الفرع الثاني: النظرية الماركسية.
والتي ترى أن الدولة جاءت نتيجة الصراع الطبقي في المجتمع، وجاءت كتنظيم للحفاظ على مصالح الطبقة المسيطرة وهي الطبقة البرجوازية المالكة لوسائل الإنتاج، وعلى هذا الأساس فالدولة في نظر ماركس هي تنظيم مؤقت مرتبط بصراع الطبقات وسوف تزول بزوال البرجوازية وانتصار الطبقة الشغيلة في العالم.
الفرع الثالث: نظرية التضامن الاجتماعي.
يرى الأستاذ الفرنسي ليون دوجي أن الدولة ما هي إلا نتيجة لأربعة عوامل أساسية هي:
1) ـ انقسام الجماعة إلى أقوياء حكام يفرضون إرادتهم على الضعفاء محكومين.
2) ـ الخلاف السياسي يظهر سلطة الدولة، وهي لا تظهر إلا بانقسام الجماعة واستحواذ إحدى الطبقات على السلطة.
3) ـ عامل الإكراه يفرض سلطة الدولة بالقوة.
4) ـ التضامن الاجتماعي يجب أن يسمو فوق الفوارق الاجتماعية وفوق شدة الأقوياء وهو العامل الذي يجمع بين الطبقتين في دولة واحدة.
تقدير نظرية القوة والغلبة.رغم عدم بعد هذه النظرية عن الواقع فمن المؤكد أنها لا تصلح لتفسير نشأة جميع الدول، كما أنه حتى ولو قامت دولة ما على القوة فإنها سرعان ما تعود إلى الاستناد على الإرادة الشعبية لأن القوة وحدها لا تكفي لبناء دولة مستقرة.
المطلب الثالث: النظريات العقدية (الديمقراطية).
بالرغم من أن أصحاب معظم هذه النظريات انطلقوا من فكرة مفترضة واحدة والمتمثلة في أن اتفاق وقع بين الأفراد للخروج من الحياة الفطرية إلى الحياة المنظمة هي أساس نشأة المجتمع السياسي أي الدولة، إلا أن كل فقيه له تصوره الخاص للحياة التي كان يعيشها الأفراد قبل العقد والأطراف المشاركة في العقد والآثار المترتبة عنه. وسيتم تفصيل ذلك من خلال أراء الفقهاء الثلاثة : هوبز ولوك وروسو.
الفرع الأول: نظرية العقد الاجتماعي عند هوبز. (1588ـ 1679)
يعتبر توماس هوبز من أهم القائلين بفكرة العقد الاجتماعي كأساس للسلطة ولنشأة الدولة، فهو يرجع أصل الجماعة المنظمة إلى تعاقد الأفراد فيما بينهم، وأن التعاقد هو الذي نقل الأفراد من الحالة الطبيعية إلى مجتمع منظم تسود فيه طبقة حاكمة، وأن حالة الأفراد قبل العقد كانت فوضى واضطراب يسيطر فيها الأقوياء لكن حرص الفرد على البقاء وحب إشباع الحاجات والمصالح الذاتية ولد لديه الإحساس بضرورة التعاقد على أن يعيشوا معا تحت سلطان أو ملك واحد يتنازلون له عن كافة حقوقهم الطبيعية على أن يتولى حماية مصالحهم وليعيشوا في مجتمع منظم تسوده العدالة والمساواة، وعليه فهوبز يرى أن العقد تم بين الأفراد دون اشتراك الملك وعليه فهو صاحب سلطة مطلقة والأفراد ليس لهم حق المناقشة ولا مراقبة أو محاسبة الملك. ومنه فالنقد الموجه لهوبز يتمثل في أنه منح سلطات مطلقة للملك على حساب الشعب وهو ما من شأنه أن يؤدي إلى الاستبداد.
الفرع الثاني: نظرية العقد السياسي لجون لوك. (1632ـ 1704 )
تتفق نظرة لوك مع هوبز في فكرة أن الأفراد كانوا في حالة الفطرة ثم انتقلوا إلى مجتمع منظم، لكن لوك يختلف عنه في تصوير حالة الأفراد في مرحلة الفطرة والتي يرى أنها لم تكن حالة فوضى بل كان يحكمها العدل والمساواة في ظل القانون الطبيعي، وإنما سبب إبرام العقد هو الرغبة في حياة أفضل وأكثر تنظيما عن طريق إقامة سلطة تحكمهم وتحميهم، كما يعتبر لوك أن الأفراد لم يتنازلوا عن جميع حقوقهم للحاكم الذي هو طرف في العقد إنما تنازلوا له عن جزء من حقوقهم فقط، وبذلك تصبح سلطة الملك مقيدة بما تضمنه العقد من التزامات، وإذا تجاوز الحاكم حدود الصلاحيات المخولة له فإنه يحق للشعب مقاومته وعزله.
الفرع الثالث: نظرية العقد الاجتماعي لروسو. (1712ـ 1778 )
يرى حون حاك روسو أن حياة الفطرة للأفراد كان يسودها الحرية المساواة غير أن هذه الحالة تغيرت بسبب تضارب المصالح وظهور الملكيات الخاصة والصناعة وازدياد الثروات واتساع مجالات الاختلاف والصراعات مما حول سعادة الأفراد إلى شقاء ودفع بالأغنياء على وجه الخصوص إلى التعاقد للقضاء على الخلافات والانتقال إلى حياة منظمة أفضل ومن خلال هذا العقد تنازل الأفراد عن جميع حقوقهم للمجتمع مقابل الحصول على الحقوق المدنية، وهكذا تسود المساواة والحرية والعدل في المجتمع المنظم، وما تجدر الإشارة إليه عند روسو أن الحاكم ليس طرفا في العقد إنما يحكم بإرادة الأمة فهو وكيلها ويحق لها عزله متى انحرف عن العقد ومما يمكن ذكره كذلك أن نظرية روسو أثرت كثيرا على رجال الثورة الفرنسية وترجمت في إعلانات الحقوق ودساتير ما بعد الثورة الفرنسية.
نقد النظريات العقدية: على الرغم من أن النظريات العقدية قد حققت أغراضها وكان لها أثر كبير على دساتير العديد من الدول وبخاصة فرنسا، إلا أنه وجهت لها عدة انتقادات أهمها:
1) ـ إن فكرة التعاقد الذي تم بين الأفراد للانتقال من حالة الفطرة إلى حالة المجتمع المنظم حسب ما ذهب إليه أصحاب هذه النظرية هو مجرد افتراض وفكرة خيالية لا سند لها في الواقع.
2) ـ إن النظرية العقدية عند هوبز وروسو تؤدي إلى تبرير السلطان المطلق للحكام وخضوع الأفراد لهم خضوعا كليا.
3) ـ إن إبرام العقد لإقامة نظام معين يتطلب وجود جماعة منظمة بشكل مسبق ونصوص قانونية تحدد حقوق وواجبات الطرفين، ولذلك فإن هذه النظرية تفتقر للإطار القانوني.
المطلب الرابع: نظريات التطور.
تنطلق هذه النظريات من أن الدولة لم تنشأ طفرة واحدة، وإنما كان ذلك نتيجة تطور أصاب المجتمع ويمكن تقسيم وجهة النظر هذه إلى اتجاهين رئيسيين هما: نظرية التطور العائلي ونظرية التطور التاريخي.
الفرع الأول: نظرية التطور العائلي.
يقول أنصار هذه النظرية ـ وعلى رأسهم أفلاطون وأرسطو وبودان وسير هنري مين ـ بأن أصل الدولة والسلطة يجد مصدره الأول في السلطة الأبوية وأن الدولة ما هي إلا أسرة تطورت ونمت بشكل تدريجي.
ويستند أنصار هذه النظرية في تدعيم رأيهم هذا على أن الأسرة هي الخلية الأولى في المجتمع نشأت لتلبية حاجات فطرية يتصف بها الإنسان وتوسعت إلى أن ظهرت العشائر ثم القبائل ثم القرى والمدن والتي بتطورها احتاجت إلى تنظيم معين هو الدولة.
واجهت هذه النظرية انتقادات لأن العائلة تختلف في طبيعتها عن طبيعة الدولة وأن سلطة رب الأسرة تنقطع بغيابه أما الحاكم فلا تنتهي السلطة في شخصه وعلاقة رب الأسرة تعتمد على العاطفة والاعتبارات النفسية، أما علاقة السلطة بالمحكومين فتحكمها اعتبارات موضوعية.
الفرع الثاني: نظرية التطور التاريخي.
يرى أنصار هذه النظرية ـ ومن بينهم الفقيه برتلميBarthelemy) ) وجارنر ( Garner ) وسبنسر(Spencer) ـ بأن الدولة لم تنشأ نتيجة القوة أو التطور العائلي أو العامل الديني أو العقد، وذلك أن الظواهر الاجتماعية ومن بينها الدولة لا يمكن رد نشأتها إلى عامل واحد، فالدولة عندهم هي نتاج تطور تاريخي وتأثيرات متعددة كان نتيجتها ظهور عدة دول تحت أشكال مختلفة، لذلك فإن السلطة في تلك الدول لا تستند في قيامها هي الأخرى على عامل واحد بل تستوجب تضافر عدة عوامل منها القوة والدهاء والحكمة والدين والمال والشعور بالمصالح المشتركة التي تربط أفراد الجماعة بعضهم ببعض، فالدولة وفق رأي أنصار هذه النظرية هي ظاهرة اجتماعية نشأت بدافع تحقيق احتياجات الأفراد. وعليه فهذه النظرية بالرغم من عموميتها تعد أقرب النظريات إلى الصواب.
المطلب الخامس: النظريات المجردة.
وهي النظريات التي تناولها الفقه الدستوري المعاصر ولم تعرف أي تطبيق في الواقع، ومن جملة هذه النظريات :
ـ نظرية النظام القانوني لكلسن(Kelsen) ،حيث يعتبر أن الدولة هي نظام قانوني قائم على تسلسل وتدرج القواعد القانونية في شكل هرمي مركزي، القاعدة العليا فيه هي الدستور.
ـ نظرية تأسيس السلطة للفقيه جورج بيردو(G.Burdeau) حيث يرى أن الدولة كيان معنوي مستقل عن أشخاص الحكام يتم عبر تأسيس السلطة السياسية المستقلة المتمتعة بالشخصية المعنوية.
ـ نظرية المؤسسة للفقيه موريس هوريو(Maurice Hauriou) يرى هذا الفقيه أن الدولة ما هي إلا مؤسسة مثل بقية المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية تنشأ باتفاق الأشخاص الذين تجمعهم فكرة واحدة مشتركة وهي إنشاء نظام اجتماعي وسياسي بطريقة قانونية.
ـ نظرية الوحدة للفقيه الألماني جيلنيك (Jéllineck) حيث يرى هذا الفقيه أن اتجاه إرادة الأفراد إلى إنشاء دولة إنشاء قانونيا موضوعيا وهو يختلف عن العقد الخاص الذي ينظم مصالح خاصة بين الأفراد.
المبحث الثالث: أركان الدولة
رأينا من خلال التعاريف التي حاولت التصدي إلى موضوع الدولة أنها كانت تدور كلها حول فكرة أنها (جماعة من الأفراد تقيم على أرض معينة بصفة دائمة ومستقرة وتخضع لسلطة سياسية عليا ذات سيادة.)
ومن خلال هذا الطرح يمكن إجمال أركان الدولة في ثلاث ركائز أساسية هي: الشعب والإقليم والسلطة السياسية.
المطلب الأول: الشعب.
الشعب هو الركن الأساسي لقيام أي تنظيم أو ظهوره ولولاه ما وجدت الدولة لذلك لا يمكن تصور قيام دولة بدون شعب، مع أن عدد أفراد الشعب لا يهم في الحقيقة إلا من حيث اعتبار ذلك عاملا من عوامل القوة للدولة سياسيا واقتصاديا. فما هو مفهوم الشعب؟ وكيف نميزه عن غيره من المدلولات التي ترتبط به؟
هذا ما سنتناوله في الفرعين التاليين:
الفرع الأول: مفهوم الشعب.
يقصد بالشعب مجموعة من الأفراد يقيمون على أرض الدولة ويرتبطون بها برابطة قانونية هي الجنسية ويخضعون لسلطة سياسية، كما قد تتوفر ظاهرة أخرى هي الظاهرة الاجتماعية والتي يقصد بها توافر روابط معينة بين أفراد هذا الشعب أساسها مقومات مشتركة مثل الأصل والدين واللغة والتاريخ، هذه العناصر ليست شرطا لتكوين الدولة ولكن توافرها في شعب معين من شأنها أن تكون عنصر دعم ووحدة للدولة.
ومنه نخلص إلى أنه لا يشترط في شعب الدولة أن يكون أمة واحدة، فقد يكون جزء من أمة كما هو الشأن بالنسبة للشعوب العربية، ويكون شعب الدولة من عدة أمم مثل الشعب الهندي وشعب الولايات المتحدة الأمريكية، أو قد يكون أمة واحدة كما هو الشأن بالنسبة للدولة الإسلامية سابقا أو الدولة الألمانية الحالية.
كما يجب التفرقة بين الشعب بمفهومه الاجتماعي عن الشعب بمفهومه السياسي.
1) الشعب بالمفهوم الاجتماعي. يقصد به مجموعة الأفراد الخاضعين لسلطة الدولة والمتمتعين بجنسيتها دون اعتبار لسنهم ومدى قدرتهم على إجراء التصرفات القانونية أو السياسية.
2) الشعب بالمفهوم السياسي. يقصد به كل المواطنين الذين يحق لهم المشاركة في تسيير أمور الدولة أي الذين يتمتعون بحق الانتخاب.
كما يجب التفرقة بين الشعب والسكان.
1) ـ الشعب هم الأفراد الخاضعين لسلطة الدولة ويحملون جنسيتها.
2) ـ السكان يشمل كل الأفراد المقيمين على إقليم الدولة سواء كانوا رعاياها أم أجانب.
الفرع الثاني: التمييز بين الشعب والأمة.
الشعب في الدولة يتكون من أمة أو جزء من أمة أو من عدة أمم. وهذا يبين أن هناك فرق بين المدلولين، فالشعب هو مجموعة من الأفراد يقطنون أرضا معينة أما الأمة فهي إلى جانب ذلك تتميز باشتراك أفرادها في عنصر أو عدة عناصر كاللغة والدين والأصل والرغبة في العيش المشترك.
العناصر المكونة للأمة تختلف باختلاف الفقهاء، فكل فقيه ينظر إليها من خلال انتمائه إلى بلد معين، مما يدفع به إلى التركيز على عناصر معينة وإهمال أخرى. وأهم ما يمكن الإشارة إليه في هذا المجال هو اندماج مفهوم الأمة والدولة أثناء الثورة الفرنسية حيث أصبح يقال الدولة الفرنسية والأمة الفرنسية.
ومن أهم النظريات التي تناولت موضوع الأمة وتحديد العناصر المكونة لها نذكر:
أولا: النظرية الألمانية.
تعتمد هذه النظرية على عنصر اللغة في تكوين الأمة ومن أشهر القائلين بها المفكران فيخت(Fichte) و هردر (Herder) وذلك تلبية لرغبة الألمان في ضم الألزاس واللورين إلى السيادة الألمانية لأنهما ناطقتان باللغة الألمانية.
ثانيا: النظرية الفرنسية.
جاءت كرد على النظرية الألمانية، حيث ترى أن العنصر المميز للأمة عن الشعب هو الرغبة والإرادة المشتركة في العيش معا داخل حدود معينة، وليس العرق ولا اللغة.
والنقد الذي وجه لهذه النظرية هو أن الرغبة في العيش المشترك هي نتيجة لظهور الأمة وليست عاملا في تكوينها.
ثالثا: النظرية الماركسية.
اقتصر أنصار الشيوعية في تحديد العناصر المكونة للأمة على العامل الاقتصادي. وهذه النظرية كذلك لاقت انتقادا شديدا من جمهور الفقهاء لأن العديد من الأمم استعمرت ولم تصمد سوى الأمم التي بنيت على العوامل المعنوية مثل العواطف والتاريخ المشترك واللغة والدين، ولكن العنصر المادي لم يكن له تأثير في تحريك الأمم ضد مستعمريها.
المطلب الثاني: الإقليم.
يعتبر الإقليم ركنا أساسيا لقيام الدولة، حيث يستقر عليه الشعب بصفة دائمة وتمارس عليه الدولة سلطتها وسيادتها بمفردها دون أن تنازعها أية دولة أخرى في الاختصاص التشريعي والقضائي والإداري، ولا يهم في الإقليم أن يكون كبيرا أو صغيرا، وهو يشمل ما فوق الأرض وما تحتها وطبقات الجو والمياه الإقليمية وما يعلوها إن وجدت. كما يجب أن يكون الإقليم محددا ولكن لا يهم إن كانت تلك الحدود طبيعية أو اصطناعية أو حسابية، كما لا يشترط في الإقليم أن يكون موحدا أو متصلا بل يمكن أن يكون مجزأ ومنفصلا كاندونيسيا واليابان.
ولتوضيح مشتملات الإقليم وطبيعته القانونية، نتناول في الفرع الأول مشتملات الإقليم وفي الفرع الثاني الطبيعة القانونية للإقليم.
الفرع الأول: مشتملات الإقليم.
يشتمل الإقليم على ثلاث مجالات رئيسية وهي المجال الجوي والمجال البحري والمجال الجوي.
أولا: المجال الأرضي.
وهو الجزء المتعلق باليابسة وما تتضمنه من جبال وأنهار وصحاري وغيرها فالمجال الأرضي هو المجال المكاني الذي تمارس عليه الدولة صلاحياتها وكثيرا ما تلجأ الدول إلى توقيع اتفاقيات فيما بينها لترسيم حدودها الإقليمية.
ثانيا: المجال البحري.
المجال البحري يشمل جزء من البحار الملاصقة لشواطئها والتي تسمى بـ: البحر الإقليمي وقد ثار خلاف حول تحديد نطاقه، حيث ذهب البعض إلى تحديده بثلاثة أميال وحددته دول أخرى بستة أميال (الميل = 1852 متر) .
ورغم هذا الخلاف وبعد إبرام الاتفاقية الدولية لسنة 1982 بدأت الدول تتجه إلى جعل الحدود الإقليمية البحرية بـ (12) ميلا على العموم، ستة (06) أميال للمياه الداخلية وفيها سيادة الدولة مطلقة وستة أميال أخرى يسمح فيها بالمرور دون قيد للسفن المدنية. كما أصبحت الدول تحرص على إضافة (12) ميلا أخرى للمنطقة المجاورة للبحر الإقليمي، ومائتي (200) ميلا للمنطقة الاقتصادية الخالصة.
ثالثا: المجال الجوي.
يعتبر من المجال الجوي كل ما يعلو حدود الدولة الإقليمية من هواء وفضاء جوي، وقد بدأ الاهتمام بهذا المجال مع بداية القرن العشرين مرحلة بداية عصر الطيران. ففي سنة 1919 أبرمت الاتفاقية الدولية المتعلقة بتسهيل الملاحة الجوية في باريس، ثم جاءت اتفاقية هافانا سنة 1928 مؤيدة لما جاء في الاتفاقية الأولى وفي سنة 1944 جاءت اتفاقية شيكاغو التي أكدت سيادة الدول على إقليمها الجوي.
وتكمن أهمية الإقليم في أنه المجال الذي تمارس عليه الدولة سيادتها وهو المعبر عن استقلالها غبر أن التطور العلمي في مجال الاتصالات من خلال الأقمار الصناعية بعد غزو الإنسان للفضاء أصبحت تطرح مشاكل في مجال حماية الإقليم مما يمكن أن يهدد سيادة الدولة على إقليمها، مما أصبح يستوجب البحث عن آليات جديدة تكفل حماية قانونية لموضوع سيادة الدولة على لإقليمها.
الفرع الثاني: طبيعة حق الدولة على لإقليمها.
ظهرت عدة نظريات حول طبيعة حق الدولة على إقليمها فمنهم من يكيفها على أنها حق ملكية ومنهم من يرى بأنها حق سيادة ورأي ثالث اعتبرها حق عيني نظامي.
أولا: حق ملكية.
يذهب هذا الرأي إلى أن الدولة هي صاحبة الإقليم وبالتالي فهي تملكه بمشتملاته، وقد انتقد هذا الرأي على اعتبار الدولة مالكة للإقليم يتعارض مع الملكية الخاصة للأفراد.
....................../...............
ثانيا: حق سيادة.
ويذهب البعض الأخر من الفقهاء إلى أن للدولة سيادة وهذه السيادة تتحدد بنطاق الإقليم، وقد انتقدت هذه النظرية أيضا لأن السيادة حسب البعض ترد على أشخاص وليس على أشياء، ويرد على هذا النقد أن السيادة في القانون الدولي لها مدلول قانوني، والذي يعني أن الدولة أعلى سلطة في داخل إقليمها، واعتبار هذا الإقليم النطاق الذي تباشر الدولة سلطتها فيه، وعليه فالسيادة تأخذ معنى السيطرة والهيمنة والإشراف عليه قصد حمايته.
ثالثا: حق عيني نظامي.
تجنبا للانتقادات الموجهة للآراء السابقة، حاول جورج بيردو إعطاء تكييف جديد لحق الدولة على إقليمها، وقال بأن حق الدولة على إقليمها هو حق عيني تأسيسي أو نظامي ( Droit Réel Institutionnel) ينصب غلى الأرض وعلى الإقليم مباشر. وقد انتقد هذا الرأي لعدم وضوح هذا التكييف، وأن فكرة حق عيني نظامي لا يكاد يختلف إلا من حيث الصياغة عن فكرة حق السيادة.
وبالرغم من كل الانتقادات التي وجهت للآراء السابقة، فإن حق السيادة مازال هو السائد في كثير من دساتير دول العالم.
المطلب الثالث: السلطة السياسية.
يستلزم لاستكمال كل العناصر المشكلة للدولة، إنشاء هيئة حاكمة منظمة تتولى باسم الدولة مهمة الإشراف على الإقليم وعلى الشعب المقيم عليه، ورعاية مصالحه وحمايته. لهذا تعتبر السلطة السياسية الركن الجوهري الذي يميز الدولة عن باقي الجماعات الأخرى هذا مع الإشارة إلى أن بعض الفقه أصبح يميز بين السلطة الشرعية والسلطة المشروعة، كما يفرد لسلطة الدولة مميزات خاصة بها.
الفرع الأول: السلطة الشرعية والسلطة المشروعة.
إذا كان الفقه لا يشترط أن تمارس هذه الهيئة الحاكمة السلطة برضا الشعب ويكتفي أن تفرض احترام إرادتها والخضوع لها بالقوة، فإنه مما لا شك فيه أن عامل الرضا والاقتناع بالسلطة الحاكمة مسألة هامة لضمان بقائها وديمومتها وحتى لا تبقى غير قانونية، لهذا يميز الفقهاء بين السلطة الشرعية والسلطة المشروعة.
ـ فالسلطة الشرعية هي السلطة التي تصل إلى سدة الحكم وفقا للقانون الساري المفعول في الدولة. وعندما يقال هذا عمل شرعي أي يتطابق مع القانون بصفة عامة كما يقال شرعية دستورية عندما تتطابق أعمال السلطة مع الدستور.
ـ أما السلطة المشروعة فهي صفة تطلق عادة على سلطة يعتقد الأفراد أنها جاءت وفق ما يؤمنون به من قيم ومعتقدات، وتأتي على العموم عند غياب الشرعية الدستورية ولهذا تستعمل عبارات المشروعية الثورية والمشروعية التاريخية.
وعليه فمصطلح الشرعية يعد أكثر دقة ووضوحا من مصطلح المشروعية الذي يعتمد على عوامل سياسية مختلفة.
الفرع الثاني: مميزات السلطة.
يمكن إجمالها باختصار في:
ـ أنها سلطة عامة وشاملة أي أنها ذات اختصاص يشمل جميع نواحي الحياة في الدولة ويخضع لها جميع الأفراد دون استثناء.
ـ أنها سلطة أصلية ومستقلة بحيث لا تستمد وجودها من غيرها، ومنها تنبع جميع السلطات الأخرى وتكون تابعة لها.
ـ أنها سلطة دائمة أي لا تقبل التأقيت ولا تزول بزوال الحكام.
ـ أنها سلطة تحتكر استخدام القوة العسكرية والمادية والتي تجعلها تسيطر على جميع أرجاء الدولة وهي تنفرد بوضع القوانين وتتولى توقيع الجزاء.
هذه هي الأركان الثلاثة تحضى بشبه إجماع بين الفقهاء، أما الأمر المختلف فيه هو: ما مدى اعتبار الاعتراف الدولي ركنا من أركان الدولة؟
ذهب الفقه في اتجاهين :
الاتجاه الأول يؤيد ضرورة وجود الاعتراف الدولي وهم أنصار الاعتراف المنشئ وهم يعتقدون أن الكيان الذي توافرت فيه الأركان الثلاثة ولم تعترف به الدول والمنظمات الدولية لا يعد دولة.
الاتجاه الثاني وهم أنصار فكرة الاعتراف المقرر وهم يرون أن الدولة تنشأ بمجرد توفر أركانها الثلاثة دون حاجة إلى الاعتراف الدولي لأنه مقرر لأمر سبق نشؤه وبالتالي فهو ليس ركنا من أركان الدولة.
وعليه وبالرجوع إلى واقع العلاقات الدولية لا يؤيد أي من الرأيين على إطلاقه. فالحقيقة أن الدولة تنشأ بمجرد توافر أركانها الثلاثة والاعتراف يعد عنصرا مهما من أجل مساعدتها على تبادل المنافع مع غيرها من الدول والمنظمات الدولية فغياب الاعتراف من شأنه أن يعرقل الدولة على مباشرة حقوقها مع الدول القائمة ومنه فعدم الاعتراف لا يعيق الدولة على التمتع بشخصيتها القانونية.
المبحث الرابع: خصائص الدولة.
تتميز الدولة عن غيرها من المنظمات الأخرى بخصائص رئيسية تتمثل في تمتعها بالشخصية المعنوية وتمتعها بالسيادة وكذا حريتها في تعديل القوانين التي تضعها بشرط انسجامها مع مبدأ خضوع الدولة للقانون.
[center]............../.............
لمطلب الثاني: موقع وعلاقة القانون الدستوري مع غيره من فروع القانون.
بعد تحديد مفهوم القانون الدستوري من خلال المعايير التي استند إليها الفقه في تحديد تعريفات مختلفة لمضمونه، يجب البحث في موقع هذا القانون وكذا علاقته مع غيره من فروع القانون الأخرى.
الفرع الأول: موقع القانون الدستوري من بين فروع القانون الأخرى.
درج الفقه على تقسيم القانون إلى قسمين، قانون خاص وقانون عام.
يعرف القانون الخاص بأنه ( القانون الذي ينظم العلاقات بين الأفراد بعضهم ببعض أو بينهم وبين الدولة باعتبارها شخصا عاديا كباقي الأشخاص، وليس باعتبارها صاحبة سلطة وسيادة.) وهو ينقسم إلى عدة فروع منها القانون المدني والقانون التجاري والقانون الدولي الخاص وقانون الإجراءات المدنية.
أما القانون العام فهو( القانون الذي ينظم العلاقة بين الدولة والأفراد أو بين مصالح الدولة فيما بينها بوصفها صاحبة سلطة وسيادة، ويهتم بنشاط الدولة سواء كان سياسيا أو إداريا أو ماليا.) وهو ينقسم بدوره إلى قانون عام داخلي وهو يهتم بدراسة الدولة وتنظيم نشاطها في مختلف الميادين الضرورية ويشمل القانون الدستوري والقانون الإداري والقانون المالي والقانون الجنائي. وقانون عام خارجي وهو القانون الدولي العام الذي يدرس علاقة الدولة بغيرها من الدول والمنظمات الدولية.
ما يمكن استنتاجه إن موضوعات القانون العام تشترك في دراسة موضوع واحد وهو الدولة ثم تهتم في تخصصها بدراسة صورة معينة من نشاط الدولة.
الفرع الثاني: علاقة القانون الدستوري مع فروع القانون الأخرى.
من خلال تحديد موقع القانون الدستوري من بين فروع القانون نجد أن له صلات وثيقة بفروع القانون العام، ولكن ذلك لا يمنع من وجود صلات بين القانون الدستوري وفروع القانون الخاص وإن كانت بقدر أضعف نسبيا.
أولا: علاقة القانون الدستوري مع فروع القانون العام.
1) علاقة القانون الدستوري بالقانون الدولي العام: القانون الدولي يهتم أساسا بنشاطات الدولة في المجال الخارجي. أما القانون الدستوري فيبحث في القواعد التي تحدد نظام الحكم في الدولة وشكل واختصاصات السلطات العامة فيها. وبالرغم من في مجال اهتمامات القانونين إلا أنه توجد بينهما بينها صلات قوية تتمثل في:
ـ القانون الدولي تضع قواعده الدول من خلال الاتفاقيات والمعاهدات التي تبرمها، أما القانون الدستوري فإنه يحدد ويبين طرق وإجراءات ووسائل نشاط الدولة في المجتمع الدولي.
ـ الأشخاص الذين يمثلون الدولة في الخارج ويملكون حق إبرام المعاهدات باعتبارهم يمثلونها تعد من موضوعات القانون الدولي العام وهم أنفسهم أعضاء السلطة التنفيذية التي هي من اهتمامات القانون الدستوري.
ـ هناك العديد من المبادئ القانونية الدولية تنص عليها دساتير الدول وتكرسها مثل المساواة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى.
ـ كما تحدد الدساتير مدى القوة الإلزامية للمعاهدات الدولية داخل الدولة.
2) علاقة القانون الدستوري مع فروع القانون العام الداخلي:
ـ علاقة القانون الدستوري بالقانون الجنائي: القانون الجنائي ينظم العلاقة بين الفرد والدولة وهو يشمل بيان الجرائم والعقوبات المقررة لها والإجراءات الواجب إتباعها جنائيا، وتظهر العلاقة بين القانون الجنائي والقانون الدستوري في أن القانون الجنائي يعمل على حماية الدستور ونظام الحكم في الدولة ويعاقب على محاولة المساس بأمن الدولة، كما أن القانون الدستوري يحدد المبادئ التي يبنى على أساسها القانون الجنائي مثل اعتبار المتهم بريء حتى تثبت إدانته من جهة قضائية.
ـ علاقة القانون الدستوري بالقانون الإداري: من مظاهر العلاقة بين القانون الدستوري والقانون الإداري، إن القانون الدستوري يضع الأسس التي يبنى القانون الإداري والفلسفة التي تقوم عليها الإدارة، ويهتم القانون الإداري بتنفيذ تلك المبادئ الدستورية.
ـ علاقة القانون الدستوري بالقانون المالي: إن القانون المالي يستمد مبادئه الرئيسية من الدستور الذي يحدد قواعد وضع الميزانية خاصة فيما يتعلق بالضرائب والإيرادات وطرق الإنفاق.
ثانيا: علاقة القانون الدستوري بفروع القانون الخاص.
الدستور يترك العلاقات الخاصة في الغالب للتنظيم بشكل حر ودون تدخل من جانبه خاصة وأن القوانين التي تضبط تلك العلاقات يغلب عليها الاستقرار والثبات، مثل القانون المدني وقانون الأسرة، ولكن رغم ذلك نجد القانون الدستوري يتضمن المبادئ والأسس العامة للتنظيم الاقتصادي والاجتماعي مثل النص على أن الملكية الخاصة مضمونة وحق الإرث وكذلك حماية الأسرة، ويعود إلى القوانين الخاصة تنظيم وتجسيد تلك المبادئ وتفصيلها.
وما يمكن ملاحظته في العلاقة بين القانون الدستوري والقوانين الخاصة أنها ضعيفة نسبيا بحكم أن القانون الدستوري يهتم بنظام الحكم وشكل السلطة، بينما تهتم القوانين الخاصة بالعلاقات القائمة بين الأفراد والأشخاص الاعتبارية الخاصة وكذلك العمة ولكن هذه الأخيرة ليس بوصفها صاحبة سلطة وسيادة.
المطلب الثالث: الفرق بين القانون الدستوري وبعض المصطلحات المشابهة له.
بجانب اصطلاح القانون الدستوري مصطلحات أخرى تشبهه وهي قريبة منه ولكن ليس لها ذات المعنى، ونقصد من بين تلك المصطلحات الدستور والنظام الدستوري، ونظرا للتشابه اللغوي الكبير والاختلاف في المعنى يتوجب التمييز بين هذه التسميات.
الفرع الأول: القانون الدستوري والدستور.
يميز الفقهاء بين اصطلاح القانون الدستوري والدستور من خلال التعريف الذي يعطونه لكل منهما فيعرف الدستور بأنه الوثيقة القانونية التي تصدر عن هيئة معينة طبقا لإجراءات خاصة تتضمن القواعد المتعلقة بنظام الحكم في الدولة في وقت معين.( أما القانون الدستوري فقد يتعرض إلى بحث مجموعة القواعد القانونية التي تبين نظام الحكم في مختلف الدول أي أن القانون الدستوري قد يبحث من ناحية المقارنة بين مختلف الدول أما الدستور فإنه ينصرف مدلوله إلى دولة بالذات).
فالدستور بمفهومه الموضوعي موجود في كل الدول ولو أنه شكلا غير موجود في بعضها لأنه لا يتصور قيام مجتمع سياسي دون دستور، وفضلا عن ذلك فإن المفهوم الشكلي للدستور يجعل منه مصدرا من مصادر القانون الدستوري وإن كان يحتل المرتبة الأولى.
قد يتطابق مفهوم القانون الدستوري والدستور متى أخذ بالمفهوم المادي (الموضوعي) لأن الاصطلاحين يمكن تعريفهما في هذه الحالة بـ (مجموعة القواعد القانونية التي تتعلق بنظام الحكم في الدولة.)
أما إذا أخذ بالمفهوم الشكلي للدستور فهو يمثل الوثيقة الرسمية المكتوبة ويتضمن قواعد ذات طبيعة دستورية وأخرى غير دستورية بطبيعتها.
الفرع الثاني: القانون الدستوري والنظام الدستوري.
النظام الدستوري هو الذي يحقق خضوع السلطة لقواعد تحكم وسائل ممارستها دون أن يكون باستطاعة هذه السلطة الخروج عن هذه القواعد، أو هو الهيكل العام الذي يقرره الدستور. النظام الدستوري يقصد به ذلك النظام الحر أي الحكومة الدستورية في الدولة،ولكي تكون كذلك يشترط الفقه الفرنسي لإضفاء صفة النظام الدستوري على النظام السياسي في الدولة أن تكون الحكومة خاضعة لقواعد قانونية دستورية أعلى منها ولا يجوز لها التحلل منها والخروج عنها بل يجب التقيد بما جاء فيها من قيود وفصل بين السلطات وتكون الغلبة للبرلمان المنتخب من طرف الشعب.
هذا الرأي لم يصبح مقبولا في الحقيقة في عصرنا الحاضر لأن المفهوم الحديث للدستور لم يعد يهتم بشكل النظام ولا أساسه ولكنه يمثل الوثيقة المتضمنة نظام الحكم في الدولة فقط . ومنه نخلص إلى أن القانون الدستوري أوسع من النظام الدستوري، وبالتالي فإن انعدام هذا الأخير لا يؤثر ولا يحول دون وجود الأول.
المبحث الثاني: مصادر القانون الدستوري.
يميز الفقه بين المصادر الرسمية التي تتمثل في التشريع والعرف والمصادر غير الرسمية أو التفسيرية والتي تشمل القضاء والفقه. باعتبار أن النوع الأول يعمل على إعلان القواعد الملزمة، إما عن طريق السلطة العامة من خلال التشريع وإما نتيجة إلزاميتها في ضمائر الناس من خلال أطرادها واستقرارها بالنسبة للعرف.
أما دور الفقه والقضاء فليس تشريع القواعد القانونية وإنما يقتصر على مجرد شرح وتفسير القانون، ولكن هذا التقسيم قد يتغير بالنسبة للمجتمعات التي تأخذ بنظام السوابق القضائية الملزمة مثل بريطانيا.
مادام أغلب الفقه يقسم هذه المصادر إلى رسمية وتفسيرية فإننا سوف نتناول في المطلب الأول المصادر الرسمية وفي المطلب الثاني المصادر التفسيرية.
المطلب الأول: المصادر الرسمية.
تشتمل المصادر الرسمية في معظم كتب الفقه على التشريع والعرف بالنسبة للدول التي تأخذ بالدساتير المكتوبة.
الفرع الأول: التشريع كمصدر رسمي للدستور.
عند دراسة التشريع كمصدر رسمي للقانون الدستوري، فإننا نأخذ بالمفهوم الموضوعي لتعريف القانون الدستوري (المعيار المرجح لدى الفقه لتعريف القانون الدستوري) يمكن أن يشمل التشريع كل القواعد والنصوص التي تتناول بالتنظيم موضوعا من موضوعات القانون الدستوري، هذه القواعد سواء وردت في وثيقة دستورية مكتوبة أو وردت في القوانين الأساسية الصادرة من البرلمان والتي تنصب على موضوعات دستورية، أو إعلانات الحقوق وكذا مقدمات الدساتير.
أولا: الوثيقة الدستورية المكتوبة.
أهم ما يميز الدولة الدستورية الحديثة في نظر فقهاء القانون الدستوري هو تدوين الأعمال المنظمة للسلطة في الدولة في وثيقة تسمى الدستور، وهي القواعد التي كانت عرفية حتى القرن الثامن عشر، حيث كان الحكام يتمتعون بسلطة مطلقة ولا يتقيدون بأي نظام قانوني يحد من سلطتهم.
يعد الدستور الذي أصدره كرومويل بعد استيلائه على السلطة في انجلترا عام 1653 أول وثيقة دستورية مكتوبة ينطبق عليها هذا المعنى، والذي استوحى فيه أحكام ميثاق الشعب والمبادئ التي صدرت من المجلس الحربي لكرومويل. فقد نص هذا الميثاق على أن السيادة للشعب وهو صاحب الحق في إصدار الدستور.
أما أول الدساتير التي تجلت فيها الأغراض السياسية للدولة الحديثة هو دستور الولايات المتحدة الأمريكية لعام 1787 والدستور الفرنسي لعام 1791. وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية عمت فكرة الدساتير المدونة وأصبحت هي البناء الأول الذي تفكر فيه الحركات التحريرية بعد حصولها على الاستقلال.
................/....................
ثانيا: القوانين الأساسية (العضوية).
توجد بالدول التي تأخذ بالدساتير المكتوبة نصوص قانونية تنظيمية تصدر عن السلطة التشريعية (البرلمان)، تأخذ وصف القوانين الأساسية، وهي تتميز عن القوانين العادية شكلا ومضمونا. ومن أهم هذه القوانين الأساسية، القوانين المتعلقة بالانتخابات، والنظام الداخلي للبرلمان وقانون الأحزاب السياسية.
ومن بين الأسباب التي دفعت إلى ابتكار هذا النوع من التشريع (القوانين) هو تسهيل مهمة تعديلها لمعالجة موضوعات دستورية لا يمكن إدراجها خلال الوثيقة الدستورية الجامدة. كما قد تكون تكملة لنصوص ناقصة في الدستور.
يعتمد الفقه في تحديد مدلول القوانين الأساسية على معيارين أساسيين هما المعيار الشكلي والمعيار الموضوعي.
ـ المعيار الشكلي: يرتكز أنصار الاتجاه الشكلي في تعريف القوانين الأساسية على التفرقة التي جاء بها الدستور الفرنسي لعام 1958 في مادته (46) بحيث تنص على أن القوانين الأساسية هي القوانين التي ورد النص عليها في الوثيقة الدستورية ويتبع بشأن إصدارها إجراءات خاصة تختلف عن الإجراءات المقررة للقوانين العادية. وهو ما نص عليه الدستور الجزائري المعدل عام 1996 في المادة (123) منه.
ـ المعيار الموضوعي: يعتمد هذا المعيار على جوهر ومضمون القاعدة القانونية دون النظر إلى الشكل والإجراءات التي تتبع في وضعها، سواء تضمنتها الوثيقة الدستورية أو تم النص عليها في قوانين صادرة عن البرلمان.
أما فيما يخص قيمتها القانونية، فالقوانين الأساسية أو العضوية فهي تأتي في المرتبة الثانية بعد القواعد الدستورية، ولكن الدول تختلف في ترتيبها بحسب ما نصت عليه دساتيرها من حيث إجراءات الإقرار أو التعديل فقد تكون مشابهة لإجراءات وضع القواعد الدستورية وبالتالي تكون لها نفس القيمة وقد تكون بدرجة أخف وأكثر مرونة مما يجعلها في المرتبة الثانية بعد القواعد الدستورية المدونة في الوثيقة الدستورية.
ثالثا: إعلانات الحقوق ومقدمات الدساتير.
توجد إلى جانب الوثيقة الدستورية المكتوبة وثائق أخرى تعلن فيها مبادئ عامة وتوضح فيها فلسفة المجتمع وتسمى إعلانات الحقوق والحريات، كما يمكن أن تدرج تلك الفلسفة والمبادئ في دساتيرها على شكل مقدمات أو ديباجات. ومن أهم الأمثلة على ذلك إعلان الحقوق الأمريكي الصادر في عام 1776 وإعلان الحقوق الفرنسي الصادر في عام1789 . وبالنسبة للقيمة القانونية لتلك الإعلانات والمبادئ فقد اختلف الفقه في مدى أهميتها ومن بين الاتجاهات نذكر:
1) اتجاه يعتبرها مجرد مبادئ فلسفية أخلاقية ينكر عليها أي قيمة قانونية.
2) اتجاه يؤيد فكرة إضفاء القوة الإلزامية على الإعلانات.
3) اتجاه ثالث يرى ضرورة التمييز بين النصوص القانونية والنصوص التوجيهية في الإعلانات، حيث يرى إلزامية الأولى وعدم إلزامية الثانية.
الفرع الثاني: العرف كمصدر رسمي للقوة